أبواب دمشق لا تفتح إلا للشرفاء.. لبنان الرسمي في ضيافة الدبلوماسية السورية
| فراس عزيز ديب
وفد حكومي لبناني في دمشق، الخبر ليس قادماً من فترة ما قبل ربيع الدم العربي، وليس لاحقاً لسقوط الإمبراطورية الأميركية، الخبر ينتمي لهذه الفترة التي لم يجرؤ فيها إلا الأحرار في هذا العالم على المجاهرة بالتواصل مع سورية.
لا يبدو بأن موضوع الزيارة بعد انقطاع قارب عقداً من الزمن، يحتاج إلى مقدمة طويلة قبل أن نعالجهُ، لكننا وبعد عشر سنوات من الحرب، خسرنا فيها ما خسرناه في هذا البلد، بعد أن أصرّ بعض اللبنانيين تعميق عبارة «لبنان خاصرة سورية الرخوة»، سنضع العواطف جانباً ونتعاطى مع الزيارة من منظورين:
المنظور الأول: من وجهة نظر شعبية
هنا دعونا نتحدث كمواطنين سوريين لا علاقة لنا بتداخلات السياسة اللبنانية، هذا إن كان هناك أساساً من عمل سياسي في لبنان، دعونا نتحدث كمواطنين لا علاقة لنا بلعبة الدول، تحديداً وإن لبنانيين كثر يتحدثون عن انهيار «عقد الدولة» في لبنان، إذن كمواطن عربي سوري بما تمثّل، كيف تقيم زيارة الوفد اللبناني إلى سورية بعد قطيعة دامت لعشر سنوات؟
مبدئياً دعونا نسترجع ثابتة مهمة، في سورية لم نتربَّ يوماً وتحديداً ضمن المنظمات والهيئات الشبابية التي ترعرعنا فيها على فكرة الحقد أو الكره، لا يوجد في العقل الشعبي السوري تلك الروح المتطلعة للدماء والتشفي، هل تآمرت سورية يوماً على أحد؟ هل تسببت بنزيف دماء الأبرياء؟ على العكس كانت ملاذهم هرباً من بحور الدماء.
في سورية تربينا على فكرة «العلاقات الأخوية»، بمعزل إن كان هذا المصطلح قائماً حتى اليوم، لكنهُ ببساطة كما الكثير من المصطلحات على غرار «الأمن القومي العربي» و«الوحدة العربية»، بحاجة لإعادة مراجعة، مصطلح العلاقات الأخوية هو مصطلح شامل انطلاقاً من الاحترام المتبادل بين الدول بمعزل إن كانت متجاورة أم لا، بمعزل إن كانت الشعوب «ربيت سوا» أم لا، فحتى الدول التي تتمتع بأفضل العلاقات على المستوى الرسمي قد لا تكون النزعة الشعبية كذلك، بل أحياناً قد يكون التمرد على سياسة الدولة عند بعض الأصدقاء مبني على الهجوم الشعبي على هذه العلاقات.
في مصطلح العلاقات الأخوية، قد أقوم بواجبي تجاهك عندما تكون في أزمة، سورية حتى وإن كانت جراحها لم تندمل، لكنها لم تتوقف عن دعم لبنان على الرغم من كل الأذى المادي الذي تعرض له الشعب السوري من تحويل قضية لجوئه إلى مادة للاستثمار السياسي، وصولاً إلى تورط جهات رسمية ونيابية وشعبية في لبنان بدعم الحركات الإرهابية في سورية من دون أن يجرؤ أحد على محاسبتهم، أو الأذى المعنوي المتمثل بحملات الشتم والردح الإعلامية التي لم تتوقف.
قد نتفق بأن المد الشعبي بين الطرفين لا يمكن اختصاره ببضعة «فينيئين» يمثلون اليمين المسيحي والإسلامي المتطرف، لكن اليوم هناك في الذاكرة الشعبية دماء سالت بسبب سكوت الشعب اللبناني عن متطرفيه، هذا الأمر لا يصلحهُ مصطلح العلاقات الأخوية بل العكس هذا المصطلح سيصبح مادة للسخرية، إذا كانت العلاقة أخوية وجرى ما جرى فكيف لو كانت العكس؟!
المنظور الثاني: من وجهة نظر دبلوماسية
عندما تريد علاقات «أخوية» مفصلة بطابعها الرسمي على مقاسك، انطلاقاً من توجيهات هذه السفارة أو تلك فأنت هنا لا تتعاطَى بمنطق الدولة، لأن من بديهيات منطق الدولة الدفاع عن مصالح شعبها، فهل مصلحة الشعب اللبناني هي قيام مسؤوليه بعزله عن عمقهم السوري عبر بدعة النأي بالنفس؟! تحديداً عندما يكون النأي بالنفس يتضمن السكوت عن الأنشطة الإرهابية ضد سورية من لبنان، وعندما يكون النأي بالنفس عبارة عن دفتر شروط تضعهُ سفارات الأم الحنون لهذا الطرف أو ذاك، عندما يكون النأي بالنفس يشمل سرقة مليارات السوريين المودعة في البنوك اللبنانية أو سحل السوريين في الطرقات لأنهم خرجوا ليمارسوا حقهم الانتخابي، عندما يكون النأي بالنفس بالصمت عن استخدام الكيان الصهيوني للأجواء اللبنانية للاعتداء على أهداف سورية، عندما يصل النأي بالنفس لأعلى درجات الوقاحة التي يوازن فيها «بطرك التطبيع» بين زيارته لسورية وزيارته للكيان الصهيوني، فهذا يعني كل شيء إلا النأي بالنفس.
المشكلة أن لبنان الرسمي بأغلبيته تجاهل مقولة: لا تلقي الأشواك في حديقتنا فقد يُعيدك الزمن إلينا حافياً!
لسنا هنا بهدف توصيف الحالة التي عاد بها لبنان الرسمي إلى سورية، تحديداً إننا في المعاناة سواء، ولسنا هنا لنجيب عمن يتساءل لماذا هذه الزيارة بهذا التوقيت؟ لأن الأهم لماذا تأخرت الزيارة حتى هذا التوقيت؟
لعلّ ما جاء به الوفد يبدو أشبه برسالة خارجية، لكن سورية كانت ولا تزال تتمنى أن لا يكون لبنان صندوق رسائل لأنه لا يقدر على هذه المهمة، وبالوقت ذاته لا يمكن لسورية انطلاقاً من ثبات سياستها الخارجية أن توفّر جهداً يزيح سيف العقوبات الاقتصادية تباعاً عن كل من سورية ولبنان، تحديداً بما يتعلق بمرور الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر سورية باتجاه لبنان.
هناك من انتظر مثلاً أن ترفض سورية كل المقترحات التي حملها الوفد اللبناني ما لم تشمل هذه المقاربة ملفات أوسع، بدت هذه المقاربة ليست في مكانها، فحصول هذا الرفض سيعني بدء حملة إعلامية شرسة تُعيد تحميل سورية مسؤولية انقطاع تلك المواد عن لبنان، بل هناك من سيذهب أبعد من ذلك بتحميل سورية مسؤولية الوضع الاقتصادي والمعيشي الخانق في كلا البلدين بسبب هذا الرفض وكأن مجلس الشعب السوري هو من أقرّ «قانون قيصر».
من هنا جاءت الموافقة السورية على المساعدة بمرور النفط والكهرباء إلى لبنان مستندة إلى عدة ثوابت أهمها:
أولاً: يعرف الجميع أن لبنان بالنسبة لسورية ليس مجرد شتّامين وناكري معروف، هناك في لبنان أخوة لنا امتزجت دماؤهم بدمائنا في معركة الشرف ضد الإرهاب الدولي وداعميه، وأيّ عمل يرفع عن هؤلاء المعاناة سيكون محل ترحيب من القيادة السورية التي تعطي دروساً بمعنى الوفاء.
ثانياً: جاءت الموافقة لتثبت القيادة السورية من جديد بأنها لن توفر جهداً يهدف إلى تحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي لسورية ولكل الشعوب المستفيدة من هذا العبور، تحديداً إن هذه الموافقة لابد وأن تنعكس إيجاباً على الوضع الاقتصادي في سورية، بعكس ما يروج لهُ أعداء هذا البلد بتحميل الحكومة السورية مسؤولية كل ما يجري.
ثالثاً: قد تكون هذه الموافقة على العبور بداية النهاية لقانون قيصر اللعين، وربما من ميزات هذا القانون أنه يحظى بإجماع الطبقة السياسية الأميركية على اختلاف مشاربها، ونظراً للعقبات التي يضعها فرقاء هذه الطبقة في وجه تعليق العمل به، قد تبدو هذه الخطوة وما قد تليها من خطوات مقدمة لجعل القانون مجمّداً، وهو ما قد ينعكس على الوضع الاقتصادي بطبيعة الحال لكل شعوب المنطقة.
في الخلاصة: تبدو الطروحات التي نقلها الوفد اللبناني أشبه بقيام الأميركي بنقل الكرة إلى ملعب سورية ومن خلفها المقاومة اللبنانية، وإن كانت هذه الدعوة أشبه بحقل ألغام يجب الحذر عند المسير فيه وإلا فإن النتائج ستكون كارثية، والعمل لضمان عودة الوضع الاقتصادي لدول هذه المنطقة بحدّه الأدنى يستحق الكثير من الليونة في التعاطي، ومن غير القيادة السورية يدرك متى وكيف يستطيع أن يجعل من هذه الليونة سلاحاً يعيد الكرة إلى ملعب من انتظر الرفض؟
سورية قامت بما يمليه عليها واجبها الإنساني والأخلاقي، والجميع الآن بانتظار الخطوة التالية بعيداً عن الدخول في تفاصيل لا طائل منها تتعلق بشروط هذا العبور والملفات التي تشمله، الرسالة كانت ملغومة، ونجحت دمشق بتفكيك اللغم ومن غيرها يستحق أن يكون الطريق نحو كسر المعاناة؟!