قضايا وآراء

اتفاق هش في درعا

| عبد المنعم علي عيسى

اندلعت الأزمة الراهنة في أحياء درعا البلد وطريق السد والمخيم منذ ما يزيد على شهرين، ولربما أضحى من الثابت أن هذا الثالوث كان قد اتخذ شكل «جيب أمني» في اتفاق التسوية الحاصلة عام 2018، ومن الثابت أيضاً أنه كان لا بد لذلك الجيب أن يستعيد نشاطه، جنباً إلى جنب جيوب أخرى كانت قد خرجت من قماشة تلك التسوية، انطلاقاً من حالة الاحتياج التي تفرضها عوامل عدة ذات منابع خارجية بالدرجة الأولى، ومن الممكن إيجازها راهنا بالقول إن نشاط «الجيب الجنوبي» حتمته بوادر الانفراج التي لاحت على أكثر من أفق، وكذا حدوث اختراقات إقليمية في جدارات العزلة المفروضة على دمشق، ما استدعى مغادرة الجيب لحالة الكمون واستعادته للنشاط من جديد.
خصوصية الجنوب السوري هنا تتأتى من اعتبارات عدة من أميزها حالة التماس المباشر مع الأراضي المحتلة التي تجعل من المعادلة القائمة هناك شديدة التعقيد، وكذا يشكل مدخلاً لتداخل قوى عدة في الصراع وإن كان بشكل غير مباشر، الأمر الذي كان يدخل بالتأكيد في حسابات «المتمردين» مما يمكن لحظه في جولات التفاوض الماراتونية، وكذا في طروحات «اللجنة المركزية» التي راحت تبني إستراتيجياتها بقبول «مسودة» اليوم ثم نقضها غداً في محاولة لمنع قيام الجيش بعمل عسكري واسع، وفي الآن ذاته لكسب الوقت بغية إعطاء الخارج فرصة لبلورة مواقفه لعل الجديد منها يفضي إلى تغيير جذري في المعادلة القائمة هناك، مع تسجيل نقطة مهمة هنا في هذا السياق تتمثل في ثبات الموقف الأردني الذي بقي عند مقاربته الجديدة للملف السوري التي تمظهرت بوضوح في تصريحات الملك عبد الله الثاني التي أطلقها مؤخراً، والمواقف التي عبر عنها خلال زيارتيه لكل من واشنطن وموسكو على التوالي، هذا الثبات أفقد «التمرد» ورقة كان من المستحيل تعويضها، وفي الغضون كانت أعمال العنف تتصاعد بما فيها استهداف مواقع الجيش السوري وسط المدينة، وكذا في ريفها، حيث كان الرهان على أن هذا الأخير هو الذي سيشكل المدخل لإحداث تغيير في الأول، وفي أتونها كان هناك العديد من جولات التفاوض ما بين «اللجنة المركزية» وبين ممثلين عن الحكومة السورية بوساطة روسية كانت في كثير من الأحيان تعاني عطب الرهان على المتغيرات التي يجب لمرور الزمن أن يحدثها فيرسخ اتفاق التسوية الحاصل عام 2018، واللافت هو أن الرهان الروسي هذا لم يزل قائماً إلى الآن، مما تبينه طريقة المعالجة الروسية، رغم بروز العديد من المؤشرات التي تستوجب التخلي عنه لاعتبارات عدة أبرزها أن الأحداث الأخيرة كانت قد أظهرت، بما لا يدع مجالاً للشك، وجود اختراقات لاستخبارات خارجية في صفوف «المتمردين» ما يثبت بالضرورة صحة مقاربة دمشق للتوتر الأخير، ويضعف من مقاربة موسكو لها بالتأكيد.
أعلن مساء الثلاثاء 31 آب الماضي بعد سلسلة من الاجتماعات عن الخروج باتفاق مبدئي تضاربت المعلومات حول بنوده، مع وجود تقاطعات مشتركة، كان أبرزها تسليم عدد من المطلوبين لسلاحهم على أن يتم ترحيلهم إلى الشمال السوري، ورفع العلم السوري على مبنى مخفر العباسية في درعا البلد، ثم تسيير دوريات مشتركة للجيش السوري مع الشرطة العسكرية الروسية، والاتفاق، أياً تكن ملحقاته وأياً يكن التضارب في تفاصيله ما بين المصادر التي أشار بعض منها إلى أنه يشمل فقط حي درعا البلد ويبقي الوضع في طريق السد والمخيم على حالهما، يمكن القول باختصار إنه لا يلبي مطالب السيادة السورية وبسط الدولة لسلطتها على رقعة جغرافية عائدة لها، بل لربما كانت من أكثرها حساسية للاعتبارات السابقة الذكر، ومن الراجح هو أن الحكومة السورية قد عمدت للقبول به في إطار رؤيا تبدت لها في ظل الصراع الدائر منذ ما يزيد على الشهرين في الجنوب.
قبيل نحو أسبوعين من اليوم أصدرت مجموعة أطلقت على نفسها اسم «سرايا المقاومة في حمص» بياناً اتهمت فيه الجيش السوري بـ«الانقلاب على التسوية في حمص» الحاصلة هي الأخرى في العام 2018، والبيان كان قد صدر في أعقاب عمليات استهداف لجنود وضباط من الجيش السوري في ريف حمص الشمالي، وفي السياق عمدت الحكومة السورية إلى إرسال وفد يمثلها للاجتماع بوجهاء من مدينة تلبيسة بريف حمص، وهو الاجتماع الذي جرى يوم 23 آب، والذي نجح في خلق حالة من السكون أو المراوحة ونزع فتيل التصعيد أقله راهناً. هنا يمكن القول إن قراءة دمشق لما كان يجري في درعا يقوم على أن التوتر الحاصل في الأخيرة كان قد فرض حالاً من التحفز في ريف حمص الشرقي، على حين من الجائز أن يكون «البناء» الجديد يهدف، من ببن ما يهدف إليه، إلى إعادة المناطق السابقة الذكر، ولربما مناطق أخرى، إلى مناخات ما قبل عام 2018 الذي شهد حصول تسويات فيها قادت نحو نوع من الاستقرار النسبي، وعليه فقد كان الذهاب إلى القبول باتفاق هش، لا يبدو أنه سيدوم طويلاً قياساً إلى عدم نزع فتيل الأزمة نهائياً وهو لا يكون إلا ببسط كامل للسيادة السورية على كامل الأحياء، في محاولة لاحتواء جنين التوتر في ريف حمص الشمالي، الذي يبدو هو الآخر ناجماً عن اختراق استخباراتي خارجي لفصائل اتخذت وضعية الكمون بانتظار استعادة نشاطها تبعاً لاحتياج من يحركها.
نحن اليوم أحوج ما نكون إلى برنامج وطني عام وشامل، يتضمن التوافق حول تعريفات مهمة لمصطلحات باتت محل خلاف بيننا، ويأخذ بالحسبان ملفات الأزمة البادئة منذ عشر سنوات بأدق تفاصيلها، ويأخذ بالحسبان أيضاً رؤيا ومصالح شرائح عدة قررت الارتهان للخارج بحكم تضرر مصالحها، حتى باتت رهينة ذلك الارتهان يحركها متى وكيف شاء، ولربما كانت هذه الآن المهمة الأولى التي ينبغي إنجازها تحضيراً لمرحلة تسبق التسوية الكبرى التي تقول تباشيرها إنها باتت على الأبواب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن