منذ الاحتلال البريطاني للعراق خلال الحرب العالمية الأولى التي انتهت عام 1918 لم تتوقف المحاولات الغربية لاحتواء العراق وخاصة لفصله عن امتداده الطبيعي إلى بلاد الشام حيث التبادل التاريخي والمعرفي والاقتصادي كان معروفاً بين مملكة إيبلا وبلاد الرافدين. وتشهد الرقم التاريخية والتطور الزراعي على التفاعل والتكامل والانسجام الحضاري والحياتي بين سورية والعراق على مرّ التاريخ إلى أن بدأت بالسعي لإلحاق العراق بسياساتها وربطه بمعاهدات متعددة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي وصولاً إلى حلف بغداد عام 1955 والذي كان يضم بالإضافة إلى المملكة المتحدة كلاً من العراق وتركيا وإيران الشاه وباكستان.
لقد كان الهدف الأول لهذا الحلف هو محاولة وقف نفوذ الاتحاد السوفييتي الذي كان قد وطّد ووسّع علاقته في تلك الفترة مع سورية ومصر. ومع أن الولايات المتحدة هي صاحبة فكرة إنشاء هذا الحلف ووعدت بتقديم الدعم الاقتصادي والعسكري للأعضاء إلا أنها لم تشارك فيه بشكل مباشر وإنما وكّلت بريطانيا للقيام بذلك، ولكن العراق انسحب من الحلف بعد ثورة 14 تموز 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي الهاشمي وأعلنت الجمهورية واستقلّ العراق لأول مرة من النفوذ البريطاني، وانتقل مركز الحلف بعد ذلك من بغداد إلى أنقرة، وأقام العراق علاقات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية مع الاتحاد السوفييتي، وبذلك أخفق هذا الحلف في وقف توسع نفوذ الاتحاد السوفييتي الذي وطّد علاقاته مع الدول العربية في تلك الفترة. ومع اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 أطلقت رصاصة الرحمة على حلف بغداد الذي اعتُبر من أضعف الأحلاف التي نشأت خلال الحرب الباردة.
ولكن محاولات احتواء العراق لم تتوقف وأسوأ تجلياتها على مرّ العقود الماضية كان نشوب الحرب العراقية الإيرانية بعد انتصار الثورة الإيرانية وبذل الجهود المستمرّة والمستميتة لفصل العراق عن عمقه العربي السوري، ومنع حتى إقامة أي علاقة وتواصل بين هذين البلدين المنسجمين تاريخياً وديموغرافياً وجغرافياً وحضارياً لأن التكامل والتفاعل بين سورية والعراق سيؤسس من دون شك لبنة عربية متينة قد تشكل قاعدة ومنطلقاً للعلاقات العربية السليمة والمجزية لكلّ المنخرطين فيها، ولذلك فقد كانت الحدود العراقية السورية دوماً أحد الأهداف الغربية وقد حرصت الدول الاستعمارية الغربية على خلق كافة الحجج والذرائع والمؤامرات لإبقاء هذه الحدود مغلقة في فترات طويلة من تاريخ البلدين.
إذ رغم كل الدعم الذي قدمه الغرب للعصابات الإرهابية منذ 2011 في حربها على سورية ورغم انشغاله في حرب إرهابية تدميرية في الداخل السوري فإن نظر الغرب لم يحد عن هذه الحدود وسعى إلى ضمان بقاء الإرهاب قربها كي يمنع فتحها والتواصل الحقيقي بين الشعبين السوري والعراقي لأن هذا التواصل سيعود بالفائدة الجمّة على البلدين انتماءً وثقافة وعروبة وحضارة واقتصاداً وتكاملاً حقيقياً. ولا شك أن كل الذرائع للإبقاء على هذه الحدود مغلقة تتلخص بأهداف الإدارة الأميركية القديمة الجديدة والتي تريد أن يكون العراق قاعدة للدول المنضوية تحت لواء الغرب وسدّاً في وجه روسيا والصين وإيران وفي وجه دخول الصين خاصة إلى منطقة الشرق الأوسط ومنع قيام أي مسعى وحدوي بين البلدين.
الغرب يعتبر العراق بوابة لنفوذه في الشرق الأوسط، ولا شك أن العراق بعمقه الحضاري ومؤهلات شعبه وثرواته الظاهرة والباطنة يشكّل عمقاً وحدوياً عروبياً وأن فصله عن سورية وإلهاءه بتحالفات غير قابلة للحياة وأثبتت فشلها على مرّ التاريخ يظهران أهمية العراق الحقيقية وإدراك الغرب لهذه الأهمية ومحاولاته تجيير كل مقدرات العراق لصالحه ونهب ثرواته وإلهاء شعبه بالخلافات الطائفية. من هذا المنظور يمكن أن نفهم كل محاولات التدمير والتهميش والاحتلال والحصار والعقوبات للعراق وشعبه على مدى العقود الماضية، وأن كل ما أثير من تهم له من أسلحة دمار شامل إلى غيرها كانت غطاءً بائساً لتنفيذ تلك الأهداف.
ولكن وبعد قرن ونيّف من أساليب وطموحات وطروحات الغرب هذه أصبح من البدهي أن يدرك أصحاب الشأن حقيقة ما يقال ومجافاته للواقع والهدف المراد منه؛ إذ لم يعد مقبولاً اليوم أن يشعر البعض بسعادة غامرة لأن مسؤولاً غربياً قرر أن يحضر مؤتمراً في بغداد وكأنّ هذا الحضور يشكل منّة أو قيمة مضافة في حين يهدف إلى تحقيق ما عجزوا عن تحقيقه من قبل من التواطؤ ضد نسيج العراق العربي وتواصله مع أهله وجيرانه واختراع تحالفات له لا مستقبل لها ولا تسمن ولا تغني من جوع بل تتركه فريسة لمن يتشدّق بحضارة بغداد، في حين تحلّ قواه العسكرية الطاغية قوة غاشمة على أرض العراق الطاهرة؛ تحتل الأرض وتنهب الخيرات وتدعم الإرهاب وتغزو الأسواق بمنتجاتها العثمانية وتروّج للطائفية وترسل الإرهابيين من الإخوان المسلمين في بلد تاريخه العيش المشترك والغنى الحضاري والتمازج الثقافي.
السؤال الذي يشغل بالي دائماً: لماذا لا نثق نحن العرب بقيمة ما لدينا؟ ولماذا لا نعرف أحياناً أهمية ما لدينا حتى يتم تسليط الضوء عليه من قبل الخصوم والأعداء؛ فنسعى حينذاك جاهدين إلى الاحتفاظ به أو تحريره من عدوانهم دافعين أغلى الأثمان في سبيل ذلك؟
لماذا لا نقتنع أن التكالب الغربي على بلداننا ومؤامراتهم ضدنا والتحالفات التي خلقوها لتمزيق صفوفنا وبناء الحواجز بين شعوبنا تعني أن لدينا ما هو ثمين وما يريدون الحصول عليه أو تدميره إذا لم يتمكنوا من انتزاعه منا؟ لماذا نحتاج إلى اعتراف الآخرين بأن موقعنا الجغرافي وثرواتنا الطبيعية والبشرية وعمقنا الحضاري وعيشنا المشترك عبر التاريخ يشكلون قيمة استثنائية لا يمتلكها الآخرون ويتوجب علينا الحفاظ عليها والاعتزاز بها من دون الحاجة إلى من يعترف لنا بذلك ومن دون الحاجة إلى شهادة من الخصوم والأعداء التاريخيين الذين ما زالوا يحطون من قدر بلادنا إلى أن يستولوا على مقدراتنا ويدمروها.
فهل تحتاج بغداد التاريخ إلى محتل عثماني ومتواطئ غربي كي تعرف قيمتها ومكانتها؟ وهل كانوا ليأتوا إليها لولا إدراكهم العميق لهذه القيمة؟ وهل يجوز أن تمتثل لما يريدون علماً أنهم برهنوا للمرة الألف أنهم يريدون للعراق التبعية فقط والوقوف في وجه التنين القادم من الشرق وأن تكون بغداد والقاهرة وعمّان سنداً لهم في وجه هذا التنين؟ إلى متى ستبقى المرجعية الغربية تذرّ الرماد في العيون ويبقى المستعمر الغربي متمادياً في نشر أوهامه عبر الأجيال أنه الأذكى والأقوى والأعرف؟ متى سيشكل العرب مرجعيتهم الخاصة بهم والمنطلقة من تقديرهم لذاتهم وتاريخهم وإمكاناتهم الاستثنائية ويمضون في التحالفات التي يختارونها هم بإرادتهم الحرة ولصالح شعوبهم وبلدانهم من دون ضغوطات أو إملاءات أو تهديدات من أحد؟ متى يكون الرأي حراً لا يتحكم به سوى الشأن الوطني والمصلحة العربية العليا؟