قضايا وآراء

بين الإرادة والضغط

| منذر عيد

في المطلق ثمة أمران يدفعان إلى انزياح الأشياء وتغيير المواقف، إما بفعل إرادة مطلقة وقناعة ذاتية، أو بقوة الضغط والمقاومة، إلا أن هناك أموراً فرعية تنتج عن خليط بين الأمرين تؤدي إلى النتيجة ذاتها، فهناك مسببات للتغير هي نتاج الخليط بين الفعلين بحيث يكون الأول بفعل الثاني، أو يتم اتخاذ الثاني غطاء لتنفيذ الأول، وهذا ليس نوعاً من الفلسفة، بل انعكاس وترجمة لما تشهده المنطقة من تطورات وأحداث.
انزياحات كثيرة وكبيرة في الموقف الأميركية تجاه سورية، لا يمكن تفسيرها إلا من منطلق «القناعة» تحت قوة الضغط، وهو ما بدا جلياً في قضيتين أساسيتين وهما أحداث درعا، وإصرار الدولة السورية على فرض سيطرتها هناك حيث الانفلات الأمني بفعل انتشار التنظيمات الداعشية، والميليشيات المسلحة، والثانية قضية عبور الغاز المصري إلى لبنان عبر سورية، وما يعنيه ذلك من انكسار في جدار العقوبات الأحادية القسرية الجائرة على سورية، وتضعضع في بنيان «قانون قيصر».
في القضية الأولى إنهاء مظاهر الفلتان الأمني في درعا، كان فعل الضغط وقوة القرار والإرادة السورية، حاضرا في انزياح الموقف الأميركي، وإن لم يكن بشكل مباشر بل عبر دفع الأردن إلى لعب الدور بـ«النيابة» عن واشنطن، وهو ما ظهر جلياً في محادثات الملك عبد اللـه الثاني مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشهر الماضي وتأكيدهما أهمية العمل للتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، بما يضمن وحدة الأراضي السورية وسيادتها والعودة الآمنة للاجئين.
حتى 2018 كانت الولايات المتحدة الأميركية الراعي الرسمي والعلني للتنظيمات الإرهابية في المنطقة الجنوبية، واللاعب الرئيس فيها عبر ما يسمى «غرفة الموك»، إلى أن تراجعت أمام قرار الجيش العربي السوري بإعادة هيبة الدولة إلى درعا عام 2018، ووجهت رسالة إلى مرتزقتها أبلغتهم فيها عدم التوقع بأي تدخل عسكري أميركي، لتستمر مفاعيل تلك الرسالة حتى تاريخه، وإعطاء الدور إلى الأردن الذي يرى أن السيطرة عبر الحدود من قبل جهة غير الحكومة السورية الشرعية أمر غير مقبول، إضافة إلى أمله في إحياء العلاقات الاقتصادية مع سورية وعبرها إلى أوروبا، وهذا الأمر محال في حالة زعزعة استقرار المنطقة.
الحال ذاته كان في مسألة إيصال الغاز المصري إلى لبنان عبر الأردن، حيث بدا واضحاً تراجع الموقف الأميركي، وحدوث شرخ كبير في العقوبات الأميركية الجائرة على سورية، ولكن بشكل علني من دون «وساطة» من خلال إعلان الرئاسة اللبنانية أن الرئيس اللبناني ميشال عون تلقى اتصالاً هاتفياً من سفيرة الولايات المتحدة لدى بيروت دوروثي شيا، أبلغته خلاله بـقرار الإدارة الأميركية بمساعدة لبنان في استجرار الطاقة الكهربائية من الأردن عبر سورية عن طريق الغاز المصري، حيث أوضحت شيا أن واشنطن تبذل جهوداً «لإنجاز هذه الإجراءات، وأن المفاوضات جارية مع البنك الدولي لتأمين تمويل ثمن الغاز المصري وإصلاح خطوط نقل الكهرباء وتقويتها والصيانة المطلوبة لأنابيب الغاز».
من المؤكد أن قرار واشنطن باستجرار الغاز عبر سورية رغم «قيصر» لم يكن لولا الضغط سواء من خلال قرار حزب اللـه بجلب الوقود من إيران، أو الضغط الجغرافي والإقليمي الذي تشكله سورية لدول الجوار من الأردن ولبنان، إضافة إلى صمود الحكومة السورية في وجه «قيصر» ذاك الصمود الذي حول الحصار الأميركي إلى لعنة على سياسة واشنطن في المنطقة ومن يدور في فلكها.
بين الإرادة والضغط، فإن الولايات المتحدة الأميركية تتجه إلى حقبة سياسية جديدة، وإستراتيجية مختلفة عما سبقها، وهو ما برز في العديد من تصريحات قادة الإدارة الأميركية وعلى رأسها الرئيس جو بايدن الذي نشر على حسابه في «تويتر» بمناسبة انسحاب قوات بلاده من أفغانستان «هذا القرار بشأن أفغانستان لا يتعلق فقط بأفغانستان.. يتعلق الأمر بإنهاء حقبة من العمليات العسكرية الكبرى، لفسح المجال لإعادة تشكيل البلدان الأخرى.. إنه الوقت للنظر إلى المستقبل، وليس الماضي.. لمستقبل أكثر أمناً وأماناً».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن