قضايا وآراء

طالبان في بنجشير

| عبد المنعم علي عيسى

بإعلان المتحدث باسم حركة طالبان ذبيح اللـه مجاهد يوم الإثنين الفائت عن سيطرة حركة طالبان على إقليم بنجشير شمال كابل، تكون الجغرافيا الأفغانية كلها قد وقعت في قبضة الحركة، والإعلان يتضمن بالتأكيد سيطرتها على المعابر والحدود برمتها، وهي منذ هذا التاريخ الأخير ستصبح مسؤولة عن أي توترات يمكن أن يجري تصديرها خارج تلك الحدود التي تصل إلى 900 كم مع إيران، و1370 مع طاجيكستان، و900 كم مع باكستان، و200 كم مع أوزبكستان، و800 كم مع تركمانستان، أما مع الصين فهي لا تتجاوز الـ76 كم، وتحديداً في منطقة شينجيانغ ذات الأغلبية المسلمة.
تقول جغرافيا بنجشير، التي تحصنت فيها قوات المعارضة منذ سقوط كابل بيد حركة طالبان يوم 25 آب الماضي، إنها منطقة جبلية شديدة الوعورة، وأثبتت العقود الماضية صعوبة السيطرة عليها، أما تاريخه، أي تاريخ الإقليم، فيقول إنه كان معقلاً لقوات «تحالف الشمال» الذي تصدى للقوات السوفييتية إبان غزو الأخيرة لأفغانستان 1979 – 1988، وفي الغضون شهد ذلك التصدي معارك طاحنة خلفت وراءها حطام المئات من الدبابات السوفيتية التي لا تزال أشلاؤها متناثرة في الإقليم حتى الآن، وفي التسعينيات من القرن الماضي التي شهد منتصفها سيطرة حركة طالبان على الحكم، دخل «تحالف الشمال» في صراع مع تلك الحركة التي لم تستطع إحكام قبضتها على الإقليم طوال السنوات الخمس التي استمرت حتى دخول القوات الأميركية إلى كابل خريف العام 2001، كمحطة أولى من «الحرب على الإرهاب» التي أطلقها الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن في أعقاب هجمات 11 أيلول من هذا العام الأخير، بعد أن جرى تحميل «تنظيم القاعدة»، المحتمي زعيمه بحمى طالبان، المسؤولية عن تلك الهجمات.
ربما كان السؤال الذي تطرحه الجغرافيا والتاريخ على حد سواء في هذا السياق هو: كيف استطاعت الحركة إذا إحكام سيطرتها على الإقليم بسرعة قياسية لم تتعد الأيام الثمانية بعيد الاحتكام للغة السلاح في أعقاب الإعلان عن إخفاق المفاوضات في التوصل إلى تسوية ترضي طرفيها؟
من المؤكد أن قصر المدة هنا له مدلولات عدة تتعدى بكثير ميزان القوى العسكري القائم بين المتحاربين، تماماً كما كان فعل سيطرة الحركة، ذات الثمانين ألف مقاتل كحد أقصى، على معظم الجغرافيا الأفغانية في مواجهة جيش يصل تعداده إلى ثلاثمئة ألف مقاتل مدججين بسلاح وتدريب أميركيين، ذا دلالات لا علاقة لها فحسب بميزان القوى العسكري الذي كان يميل لمصلحة هذا الأخير، وإن كان ذلك لم يمنع من هزيمته في غضون أسابيع أمام فصائل «طالبان» التي كانت تخترق قوات خصومها كما سكين حادة في قالب زبدة أذابته الحرارة.
هذا يؤكد أن الحروب والنتائج التي يمكن أن تنتهي إليها، لها علاقة بعوامل عدة من نوع المناخ العام السائد داخلياً، وكذا بمصالح الخارج المكون من طابقين إقليمي ودولي، وكذا مدى استعداد هذين الطابقين للدفاع عن تلك المصالح، وهذي كلها كانت في مصلحة الحركة، فمناخات الداخل الأفغاني كانت كلها تشير إلى أن البنيان كله قد تعب من الحرب، ولم يعد لديه قدرة على دفع تكاليفها الباهظة، والنزعة لديه كانت بارزة في البحث عمن يضمن الاستقرار وبأي أثمان كانت، ثم إن إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن عن تحديد موعد نهائي للانسحاب من أفغانستان كان قد أحدث انزياحات داخلية تمظهرت، أكثر ما تمظهرت، بميلان الريف الأفغاني باتجاه الحركة كعادة البسطاء في الميلان باتجاه المنتصر، وفي الطابقين السابقي الذكر، اللذين يستثنى منهما السعودية والإمارات اللتين تعتبران متضررتين مما حصل لاعتبارات عديدة، كانت الدوحة قد استطاعت، عبر الطبخ على نار هادئة بولاعة أميركية، إدخال الحركة في رحلة لـ«تعديل جيناتها» لكي تصبح أكثر قدرة على التأقلم مع السياسات الأميركية، ومن المؤكد أن جولات التفاوض الماراتونية التي احتضنها فندق شيراتون الدوحة على امتداد ما يزيد عن السنتين، كانت قد نجحت في استنباط «هجين» طالباني، لا يشبه كثيراً أباه، ومن الراجح أيضاً أن الأميركيين وثقوا بالمآلات التي أفضت إليها تلك الجولات، وبالأداء المستقبلي لـ«الهجين» الجديد الذي تأكدت عملية استنباطه ما بعد توافق شباط 2020 الذي تم على أساس توافق أطرافه على عداء داعش، ولعل ما يثبت ذلك، خير إثبات، هو أن الهجوم الانتحاري الذي خلف 13 قتيلاً من الجنود الأميركيين، والذي تبناه «داعش خراسان» في مطار كابل يوم 26 آب الماضي، أي في حماة الانسحاب الأميركي، لم يغير من الحسابات الأميركية، بل لم تصدر لكنةٌ عن واشنطن، أو عن أي من مسؤولييها، تنم ولو عن «التوبيخ» للحركة التي كانت تتولى مسؤولية الأمن في المنطقة التي جرى التفجير فيها.
خلال إعلان ذبيح اللـه مجاهد عن دخول قواته إلى بازاراك عاصمة إقليم بنجشير، ذهب الأخير إلى طمأنة السكان بأنهم لن يتعرضوا للتمييز، وأضاف: إنه بعد هذه السيطرة تكون بلادنا قد «خرجت تماماً من دوامة الحرب»، ليتابع: «ولسوف يعيش شعبنا حياة هادئة وسعيدة في جو من الحرية والاستقلال»، ومن المؤكد هو أن العبارات الأخيرة التي وردت على لسان مجاهد تحمل الكثير من الإثارة والغرابة، باستثناء الوعد بالاستقلال الذي استطاعت الحركة الوفاء به، إذ كيف سينعم شعب، بما وعد به مجاهد، في ظل حكم حركة أقل ما يقال فيها أنها معادية، بنيوياً، لحركة التطور، وكذا للصيرورة الناظمة لتلك الحركة التي تفترض تنشيطاً فعلياً «التأثر والتأثير» في المحيطين الأقرب فالأبعد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن