ثقافة وفن

الشاعر العربي والمنبر «1»

| إسماعيل مروة

لعل أهم صفة لازمت الشعر العربي هي الإلقاء والمنبرية، فمذ- كما روت الروايات- علقت الأشعار على أستار الكعبة، وأقيمت الأسواق من عكاظ إلى سواه لإلقاء الشعر، ومنذ خيمة نابغة الذبياني الموسومة التي يستمع فيها للشعراء وما نظموه خلال موسم كامل كانت المنبرية غاية، وكان الإلقاء سبيلاً لوصول الشاعر إلى شريحة كبرى من الجمهور، لذا عُدّ الشاعر وزير إعلام بعُرف اليوم للحاكم أو القبيلة على السواء.. ووصولاً إلى مربد العراق الشعري المعروف والذي استمر إلى يومنا القريب يجتمع الشعراء فيه، وصولاً إلى المنابر التي أوصلت لنا الشعر الحديث، ومهرجانات الشعر، إذ يعتمد الشاعر على صوت وإلقاء ونبرة للوصول إلى الشريحة المستهدفة، وهو في هذه الصفة يماثل الأزجال والعتابا والمواليا، وحتى لا يذهب الظن إلى الذم، فقد عرف العرب منذ القدم هذه الأصناف من الأشعار، وصنف فيها ابن حجة الحموي كتاباً مهماً عن الأزجال والمواليا، وهو معروف ومطبوع وقد عرف العرب الاستخدام القليل أو الكثير للعامية في الشعر من خلال الموشحات فكانت الخرجات وسواها، بل إنهم في زمن من أزمان الموشحات عملوا على استخدام محلية إسبانية عامية وأعجمية، ومن هنا تسلل شعر التروبادور الذي ما يزال شائعاً ومعروفاً في الشعر الإسباني الحديث كما يقول مؤرخو الأدب الأندلسي من «أنخل بالنثيا» الإسباني الذي صنف واحداً من أهم تواريخ الأدب الأندلسي، والذي ترجمه أحد أهم باحثي الأدب الأندلسي العرب الدكتور حسين مؤنس، والذي كانت له دراسات عظيمة، توّجها بكتابه الأكثر شهرة، أطلس الأدب العربي، المهم أن الشعر العربي منذ القدم وإلى اليوم يعتمد الإلقاء، وسواء أكان متأثراً بالخطابة والأزجال والمواسم الدينية قبل الإسلام، أم كان هو من أعطى هذه الصفة للفنون المذكورة، فالأمر لا يختلف كثيراً، إذا اعتمد الشعر على الإلقاء والمنبرية، وهذه صفة مؤثرة في المتلقي، ولكنها في الوقت ذاته حصرت التأثير في الشعر الملقى، وبتعريف أكثر علمية صارت سمة الشعر العربي السمة الغنائية، وها هم النقاد يصنفونه في الشعر الغنائي أي المنبري والقائم على السماع والتأثير المباشر في المتلقي، وهذه المنبرية والغنائية أكسبت الشعر العربي سمة التأثير المباشر والغنائية، لكنها في الوقت نفسه جعلته شعراً قصير النفس، فأغلب القصائد بما فيها المعلقات والمطولات هي أشعار قصيرة النفس، ولا تتجاوز مئة بيت شعر إلا نادراً، وذلك على النقيض من الأدب الحكائي الملحمي مثل الإلياذة والأوديسة وجلجامش، وهذا سبب أساسي في غياب الأدب الملحمي عن الأدب العربي، وقد حاول بعض الأدباء والشعراء في العصر الحديث أن يجربوا حظوظهم في الأدب الملحمي، لكن العلاقة الوطيدة بين الشعر العربي والمنبر والغنائية جعل هذا الأمر متعذراً، فقد كتب جورج جرداق ملحمة، لكنها بقيت محدودة الانتشار.
وعزم عمر أبو ريشة الشاعر الكبير على كتابة ملحمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد حوى ديوانه قصيدة بعنوان (مقدمة ملحمة النبي) وكانت هذه القصيدة أطول من القصائد الأخرى، ووسمها بالمقدمة يعطيها المشروعية، ولكن عمر أبو ريشة بوعي تام لصعوبة هذه المهمة عاش بعد المقدمة أكثر من ثلاثين عاماً، ولم يكتب ملحمة النبي، بعضهم يرد ذلك إلى كسل الشاعر، وبعضهم يرده إلى كبر السن وخفوت عبقرية الشعر، وآراء كثيرة، لكن العودة إلى مقدمة الملحمة التي نشرت تظهر أن عمر أبو ريشة وجد نفسه في طريق مسدود عند تحقيق المشروع، فالشعر النائي سمة للشعر العربي، وطبيعة الخطاب، وآلية التفكير، وتقنيات الخطاب، جميعها تنتمي إلى الشعر الغنائي ولا يمت إلى الشعر الملحمي بأي شكل، وما يزعمه بعضهم من صفة ملحمية اعتماداً على طول القصيدة أو قصرها هو زعم باطل فني، فثمة فروق جوهرية بين آليات تفكير الشعوب، وهذا يؤثر في آدابهم وإنتاجاتهم، والشعر العربي وسيلة تعبير، وآلية روحية وإعلامية، المنبر أساس رئيسي فيها ولا يمكن أن يتخلى منها، وقد يخسر الشاعر الكثير إذا لم يكن منبرياً أو قادراً على مخاطبة الجمهور، ومن هنا نسمع تعبيراً بأن هذه القصيدة أو تلك كانت مؤثرة في الإلقاء، أما في الورق لم تكن مؤثرة كما يجب.
ليس فضلاً أن يكون غنائياً، وليس مذمة، إنها خصوصية تتميز بها الشعوب، والغنائية التي يتململ منها كثيرون يفتقدها شعر أمم أخرى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن