قضايا وآراء

سقوط آخر القلاع

| عبدالمنعم علي عيسى

يختلف حزب «العدالة والتنمية» المغربي، وهو الاسم الذي يتوارى خلفه تنظيم «الإخوان المسلمين» في بلاد المغرب، عن باقي نظائره في البلدان العربية، فعلى الرغم من أن جل تلك النظائر كانت سابقة له، أي لحزب «العدالة والتنمية»، في التأسيس، وبعضها يسبقه بنحو نصف قرن كامل، فهو لم يتأسس رسمياً إلا في العام 1967 في حين كانت ولادة نظيره المصري، مثلاً، قد حدثت في العام 1927، إلا أن ذلك لم يقف حائلاً بين التجربة وبين خصوصيتها التي تمايزت بدرجة أظهرت الحزب في بداياته على أنه الأكثر انفتاحاً على «الحداثة الإيجابية» حيث للمصطلح هنا مفهوم مغاير لمفهوم الحداثة الشائع، كما وبرزت في تجربته أيضاً ملامح ديمقراطية داخلية فعلية لم تكن موجودة في أنضج الأحزاب اليسارية المغربية، بما فيها حزب «الاستقلال»، ومن بعده «الاتحاد الوطني للقوى الشعبية»، تحت زعامة المهدي بن بركة الأسطورية.
لم يكن الحزب، بعيد سنوات التأسيس، يمثل ثقلاً يذكر في الحياة السياسية للمغرب، ثم إن خلاف المؤسس عبد الكريم الخطيب مع الملك الحسن الثاني كان قد أدى إلى مزيد من التضييق عليه، وعلى حزبه، فكان القرار بدخول «الشرنقة» والابتعاد عن الساحة السياسية بانتظار ظروف ملائمة لظهور «اليرقة» ثم «الدودة» فـ«الفراشة».
في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي كانت ثمة قناعة قد رسخت عند الكثيرين أن عهد الملك الحسن يعيش شهوره الأخيرة، ومعها راحت تتكرس الرؤية لدى الحزب بوجوب تعميق «النهج الإسلامي»، حتى ليمكن القول إن النظرة لهذا الأخير لم تتكرس كحزب إسلامي إلا في العام 1996 فصاعداً، ليدخل الانتخابات النيابية في العام الذي يليه حاصداً أربعة عشر مقعداً، ثم راح خطاب الحزب يتلون باتجاه مناغاة هموم الشارع وقضاياه المصيرية أملاً في مضاعفة العدد بعد خمس سنوات، الأمر الذي تحقق في انتخابات العام 2002 التي حصل فيها على 42 مقعداً، وعلى الرغم من أنه حل ثالثاً في تراتبية القوى الفائزة إلا أنه أقصي عن الحكومة، فكان القرار بأن يمم الحزب وجهه شطر المعارضة الذي أصبح الطرف الأقوى فيها، لكن ثمة قراراً، كما يبدو، كان قد اتخذ في الدائرة الضيقة لصنع القرار داخل الحزب، وهو يقضي بوجوب خلط الأوراق على الساحة السياسية، مسجلاً بذلك استنساخاً لتجارب «أشقائه» في مصر وسورية، ومندفعاً باتجاه ممارسة العنف أقله في الشبهة التي أحاطت بدوره في أحداث الدار البيضاء الإرهابية في أيار من العام 2003، وإن كان أصدر في اليوم التالي للحدث بياناً يدين فيه تلك الأحداث وينفي مسؤوليته عنها.
كانت التطورات المتسارعة التي حملها مطلع العقد الثاني من هذا القرن، والتي حملت في بطونها تحالفاً أميركياً إخوانياً، عمدت من خلاله إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما إلى إعطاء توكيل للمركز التركي بإدارة الأفرع المتناثرة على امتداد المنطقة العربية، ومع هبوب رياح «الربيع العربي» بدا أن الأفرع على موعد مع «بلدوزرات» سوف تشق طرقاتها وصولاً إلى العواصم، ولأن الرباط كانت تدرك بأن لا قرار بزعزعة استقرار المغرب، فقد اختارت الانحناء أمام العاصفة ريثما تمر بسلام، وعندما حدثت احتجاجات 20 شباط 2011 المطالبة بـ«إسقاط الفساد والاستبداد» لكن تحت سقف النظام الملكي، سارع النظام إلى إقرار دستور جديد ولد من رحم تلك المطالب، وجاء في بعض بنوده خادماً لتوجهات حزب «العدالة والتنمية»، ولربما كان ذلك هو كلمة السر في النتائج التي أفضت إليها انتخابات العام 2011 التي حصل فيها الحزب على 107 مقاعد مكرساً نفسه كصاحب أكبر تمثيل نيابي ودافعاً بزعيمه عبد الإله بنكيران إلى تشكيل حكومة الإخوان الأولى في تاريخ البلاد، وفي العام 2016 استطاع الحزب زيادة تلك النسبة بحصوله على 125 مقعداً، وما يلفت الانتباه هنا أن التقدم الأخير كان قد حصل برغم الحدث المصري في 3 تموز 2013 الذي سجل سقوط أول قلعة جرى الرهان على استمرارها برغم «الطلاق البائن» الحاصل ما بين الإخوان والأميركيين ما بعد مقتل السفير الأميركي في بنغازي في 11 أيلول 2012 على أيدي جماعات منتمية للفرع الإخواني في ليبيا، وأيضاً برغم التعثر الحاصل في سورية التي بقيت مستعصية، واستعصاؤها كان من المؤكد أنه سيفضي إلى تداعيات تشبه تساقط الأحجار التي تستند فيها واحدة إلى الأخرى.
هنا يمكن القول إن قراءة الرباط كانت تستند إلى رؤية تقول بأن من المفيد الاستثمار في هذا «النهوض» للإسلام السياسي في مواجهة يسار مغربي متجذر، وهو كان يمثل على الدوام خطراً أكبر، بما لا يقاس، على النظام مما تمثله تنظيمات الأول مجتمعة.
مساء 9 أيلول الجاري أعلن وزير الداخلية المغربي نتائج الانتخابات التي كانت قد جرت في اليوم السابق لهذا اليوم الأخير، والإعلان تضمن فوز حزب «التجمع» الليبرالي، المقرب من القصر، بـ97 مقعداً من أصل 395، تلاه حزب «الأصالة والمعاصرة» بـ82 مقعداً، ثم حزب الاستقلال بـ78 مقعداً، فيما توارى حزب «العدالة والتنمية» وراء 12 مقعداً في هزيمة ساحقة لم يحقق فيها نسبة أكثر من 10 بالمئة مما حققه في انتخابات العام 2016.
من الصعب هنا الركون إلى تفسيرات أشارت، في سياق تبرير تلك الهزيمة، إلى وجود مشاكل تنظيمية داخل الحزب أدت إلى تأثر قاعدته الانتخابية، وإلى مصادقة الحكومة التي يرأسها على قانون «تقنين القنب الهندي»، بل ولا إلى سير الحزب في مسار التطبيع مع إسرائيل، على الرغم من أن الفعل الأخير كان قد أفقده المصداقية عند شرائح لا بأس بها قياساً لمواقفه المعلنة في السابق والتي كان يُعبّر فيها عن رفضه لهكذا مسار، نقول من الصعب الركون إلى تلك التفسيرات فحسب، لتبرير ما جرى، على الرغم من أنها ساعدت في تشكل المشهد المرتسم يوم 9 أيلول الجاري، لكن محور الحركة الناظم لتصاعد، وهبوط، القوى في تلك الانتخابات كان «القصر» الذي يمسك بمسننات هذا الأخير، ففي نظام، كالنظام المغربي، يملك من أدوات القوة الداخلية، وكذا أدوات الإسناد الخارجي اللامحدودة خصوصاً ما بعد التماهي الحاصل مؤخراً مع تل أبيب، ما يكفي لإدارة قواعد اللعبة بشكل يتيح له ترجيح كفة تيار على آخر، لا يمكن إغفال «المؤثرات» التي تفضي في النهاية إلى قلب النتائج رأساً على عقب.
نحن هنا لا نسوق للبيانات التي أصدرها حزب «العدالة والتنمية» التي اتهمت «الكل» باستعمال المال السياسي للتأثير في النتائج، وهذا فيما لو حصل مع ترجيح حصوله، فإنه سيكون قد حصل أيضاً في انتخابات 2011 التي ضاعفت تمثيل الحزب لثلاث مرات عن آخر انتخابات، وحصل أيضاً في انتخابات العام 2016 التي كرست سيادة الحزب بزيادة تمثيله، وإذا ما كانت المقاييس كذلك فإن خيار «القصر» مضى إذاً في اختيار الليبرالية اللازمة لقيادة مرحلة تقارب أكبر مع كل من واشنطن وتل أبيب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن