ثقافة وفن

ويغيب ركن الأدب الجاهلي

| إسماعيل مروة

رحيل الأساتذة مؤلم، ووداع الكبار أكثر إيلاماً، خاصة إن اجتمعت بأحدهم صفة العلم مع العمل، بغض النظر عن علاقتنا بهذا العالم أو ذاك، ولا أجد غضاضة في الحديث عن شخصيات ذات قدم راسخة في العلم والأكاديمية، مع أن كثيرين لا يعرفون هذه الشخصيات، فهي ليست بشهرة النجوم والمغنين، وإن كانت في ميدانها أرحب وأكبر، وحين تمرّ سنوية نجم يعاد الحديث عنه، بينما لا يتم الحديث عن العالم والأكاديمي حتى في يوم رحيله، وأذكر أنه عندما رحل أستاذنا الدكتور عمر موسى باشا استغرب كثيرون أن نتحدث عنه ونرثيه، لأن الناس لا يعرفونه بشرائح واسعة، وكأن المطلوب أن يبقى الناس على عدم معرفة له، واللازم هو أن نهيل التراب عليه وعلى ذكراه وذاكرته في اللحظة ذاتها، وتكرر الأمر برحيل الأستاذ الدكتور موفق دعبول العالم الرياضي والمجمعي، وربما كان العهد الذي قطعته على نفسي بالحديث عن هذه القامات الأكاديمية وراء متابعة تكريم ذكراهم، وتكريم أنفسنا بأننا التقينا هؤلاء الأعلام.
مساء الخميس جاءت رسالة تخبرني بوفاة الأستاذ الدكتور عبد الحفيظ السطلي في أحد مشافي دمشق، وقد يكون هذا الاسم غير معروف لمن لم يدرس العربية، بل لكثيرين درسوها قبل وجود د. السطلي وبعد تقاعده، وهو الأستاذ العالم المدقق الذي درّس الأدب الجاهلي بجامعتي حلب أولاً ثم دمشق لعقود طويلة، وتناوبه حب الطلاب وكرههم، ومقياس هذا الحب أو الكره هو النجاح في المادة، فكل من لا ينجح يصبح السطلي عنده مثالاً للتسلط والعقد والصعوبة، وربما ساعد على هذا التخيل طبيعة الدكتور الجادة والقاسية، وهو يصرّح وربما يبالغ في الحديث عن الصعوبة والتصحيح والمحاسبة، وأزعم أنني كنت في زمن مضى أقرب الناس إلى أستاذنا من ا لسنة الأولى وحتى التخرج، وقد خصني بعلاقة أسرية مميزة، وكان عندي بمنزلة الوالد، وهو الشخص الوحيد الذي وضعت له صورة ضمن إطار على جدران مكتبتي، واستمر الأمر حتى افترقنا، ولم يعد من لقاء بيننا، إلى ما قبل عامين حين التقينا في الطريق، تبادلنا السلام بشيء من الفتور وقليل من العاطفة وافترقنا.. ولست أدري سبب هذا التحول الذي تعمق في سفري وابتعادي عن الشام.
هزّني نبأ رحيله، مع أنه كان متوقعاً، ما دفعني لاستحضار صورته ومخاطبته، هذا الرجل العالم الكبير الذي أنجز ديوان أمية بن أبي الصلت على صورة لم تكن من قبل، ولن تكون بعدما بذله بعلمه وصبره، وكان أطروحة الماجستير، ومن بعد قدم للدكتوراه ديوان العجاج الراجز في مجلدين ومجلد دراسة، وهو الصورة الأعم والأكثر شمولية حول الرجز والعجاج، ومنذ ستينيات القرن العشرين أنجز السطلي هذين الديوانين للماجستير والدكتوراه، ثم توقف فلم يصدر كتاباً آخر بعدهما، وأظن أن السبب يعود لأمرين كما أظن:
الجودة التي ظهر فيها ديوان أمية وديوان العجاج، وهما دراستان أكاديميتان من الصعب أن يتم إنجاز عمل بهذا المستوى، وقسوة الدكتور السطلي وشدته في الأحكام جعلته ممن يخشون الإصدار والنقد من الآخرين، ما أبقى مشروعاته طي الأوراق لم تر النور.
أخلص الدكتور السطلي حياته للتعليم والطلبة، وهذا الجانب يقدم العذر له، وهو من مؤسسي الدراسات العليا في جامعة دمشق، وقليلة هي الرسائل العلمية التي لا يكون فيها السطلي والدكتور شاكر الفحام أيضاً إشرافاً أو مناقشة. وقد تعرض الأساتذة المؤسسون لكثير من النكران من طلابهم الذين خرجوهم وأشرفوا عليهم وجعلوهم في مراتب علمية، بل نالوا من أساتذتهم ونهشوهم في مناسبات كثيرة، وأذكر للدكتور السطلي أمراً واحداً إن لم يكن له من إنجاز سواه لكفاه، وهو الإنجاز الذي تعجز عنه مؤسسات حيث اختط منهجاً بإصدار دواوين قبائل العرب التي لم تكن موجودة أو مجموعة، في دراسات أكاديمية لطلبة بإشرافه فصدر ديوان تغلب وديوان كلب وديوان بكر وغيرها من الدواوين التي أغنت المكتبة العربية، وسدّت باباً كبيراً في الدراسات الأدبية، وهذا الإنجاز ولو كان له من يحمل أسماءهم، فإنه ما كان ليكون بهذه الجودة والعلمية لولا ما قدّمه الدكتور السطلي الذي كان يشرف على رسائل الأدب واللغة والنحو، وكل هذه الرسائل كانت في المستوى العالي.
قد نختلف ويختلف آخرون مع الدكتور السطلي في تعامله أو أحكامه أو نظرته، لكن الذي لا خلاف عليه مكانته وعلمه و فضله، وبأننا خسرنا برحيله واحداً من أهم دارسي الأدب القديم في عصرنا الحاضر، لك الرحمات أستاذنا، وقد كنت إنساناً بأخطائك وحسناتك، وما من أحد يخلو من الأخطاء.. و لجرحك النازف من النكران أن يندمل برحيلك المرّ الصامت.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن