قضايا وآراء

تسويات درعا.. مناخات مساعدة

| عبد المنعم علي عيسى

في الحادي والثلاثين من شهر آب المنصرم تم الإعلان عن إنجاز اتفاق جزئي في حي درعا البلد، وإذا ما كان ذلك الاتفاق قد جاء هشاً قياساً إلى معطيين اثنين أولهما اضطراب الجيوب الأمنية التي اتخذت وضعية الحالة النشطة على وقع السخونة الحاصلة في ذلك الحي، وخصوصاً في الريف الغربي للمدينة، وثانيهما بقاء حالة التوتر قائمة لدرجة أعاقت عودة الأهالي إلى منازلهم التي غادروها في أعقاب اندلاع العنف قبل نحو شهرين من اليوم، فإن، ذلك الاتفاق، كان من النوع الذي يؤسس لإمكانية استنساخ نظائر له في العديد من مناطق الريف المضطربة، نظراً لمناخات إقليمية، وكذا دولية، بدت مساعدة بدرجة لافتة، مع لحظ أن عملية الاستنساخ قد تستولد تلونات تفرضها الخصوصية التي تتمتع بها تلك المناطق انطلاقاً من طبيعة السيطرة فيها، وكذا التعقيدات العسكرية المرتبطة في أحايين عدة بنظيرة اجتماعية لها.
في غضون أسبوع واحد استطاع الجيش العربي السوري إنجاز اتفاقين أفضيا إلى بسط سلطته على بلدتي اليادودة والمزيريب، وكلاهما كانا من النوع الشبيه باتفاق درعا البلد الذي تمحور حول تسليم السلاح، ورفع العلم الوطني فوق مؤسسات الدولة، ثم نشر الحواجز الأمنية بالدرجة التي تقتضيها الضرورات الميدانية.
كانت القفزة التالية التي تلت اتفاق 31 آب قد اختيرت بدقة عبر تحديد بلدة اليادودة التي شكلت مركز انطلاق للمسلحين في المعارك الطاحنة التي سبقت التوصل إلى تسوية العام 2018، وكذا مركز انطلاق نشط من النوع الداعم للتوتر الحاصل شهر حزيران الماضي، والذي طال وسط المدينة في أحياء درعا البلد والمخيم وطريق السد، أما بلدة المزيريب التي دخلها الجيش في 16 أيلول الجاري، فهي تمتلك من المواصفات ما يمنحها مفتاحية لشق الطريق واسعاً أمام تسوية شاملة لقطاع حوض اليرموك برمته وصولاً إلى الحدود الأردنية السورية نظراً للموقع الحاكم الذي تشرف من خلاله على ذلك الحوض، ومن المؤكد أن القفزتين تمثلان نقطتي ارتكاز لتعزيز الاستقرار داخل المدينة بدرجة كبيرة، من دون أن يعني ذلك أن المهمة الكبرى قد تم إنجازها نهائياً، إذ لا تزال هناك نقاط توتر، لا تقل أهمية عن سابقاتها، ولكن حتى هذه بدأت تدخل تدريجياً ضمن اتفاقيات التسوية السابقة ووفق الآلية ذاتها، وعلى رأسها بلدة طفس التي دخلها الجيش العربي السوري يوم السبت الماضي، لتزول بذلك العقبة الأكبر أمام إعلان الجيش بسط كامل سيطرته على الريف الغربي لمدينة درعا، وبدا لافتاً أنه وإضافة لمدينة طفس، فإن أهالي مدينتي إنخل وجاسم عبروا عن استعدادهم للسير في ركب التسويات بل وبادروا إلى جمع الأسلحة تمهيداً لتسليمها للجيش.
لا ينفصل هذا السياق السابق عن مناخات إقليمية، وكذا دولية، ماضية بشكل لافت نحو استعادة التهدئة سواء أكان في الملف السوري أم على امتداد المنطقة برمتها، والكثير من المؤشرات باتت تؤكد أن ثمة تلاقيات، باتت وازنة، كانت قد حصلت بين الروس والأميركيين في مجمل البقع الساخنة التي تغص بها هذه الأخيرة، بل من شبه المؤكد أن تلك التلاقيات كانت وازنة بدرجة أكبر في الملف السوري الذي يمثل «نشرة جوية» تنبئ بحرارة أو برودة المنطقة للمرحلة المقبلة، وهي، أي تلك التلاقيات، تقوم على قاعدة انزياح واشنطن في مقاربتها للأزمة السورية نحو الرؤيا الروسية، ومن الراجح أن لقاء جنيف الحاصل يوم الأربعاء الماضي بين الروس والأميركيين على مستوى مسؤولي الأمن القومي في البلدين، قد استطاع تحقيق اختراق مهم على هذا الصعيد، على الرغم من أن اللقاء لم يرشح عنه أي تفاصيل تذكر، ولربما كان ذلك مدعاة لترجيح تحقيق اختراق كهذا، إذ لطالما لو كان العكس هو الحاصل لسارعت البيانات الصادرة عن طرفيه إلى تشريح نقاط الافتراق والإسهاب فيها، ناهيك عن أن الأحداث على الأرض تشي بالكثير مما دار في أروقة التفاوض.
ربما بات الحل في سورية يمثل حالة احتياج داخلية لكل من موسكو وواشنطن على حد سواء، فإدارة جو بايدن تعاني العديد من المشاكل الداخلية مثل الاقتصاد المأزوم وتداعيات كورونا، ثم إن انتخابات الكونغرس على الأبواب، وكلها عوامل تمضي بصانع القرار السياسي إلى محاولة التهدئة في الخارج، أما الروس فهم ساعون إلى جني الثمار التي يستحيل جنيها من دون سريان الحل السياسي وتبلوره واقعاً على الأرض، ومن المؤكد أننا نستطيع إيراد العديد من المؤشرات التي تؤكد صوابية تلك الفرضية، وفي الذروة منها «الاستثناء» الأميركي المعطى للبنان لتمرير الغاز المصري عبر سورية، وهو بالتأكيد يمثل خرقاً وازناً في جدارات «قيصر» الذي ما انفكت واشنطن تقول إنه «العصا» التي ستحقق بها ما لم تحققه أكداس المال وطيوف التحالفات الواسعة، والحدث، أي الاستثناء الأميركي، ليس عابراً، بل هو خطوة راسخة في مسار يؤسس لخطوات لاحقة ولا شك فما يفصل بين «المحرمات» وبين كسر جداراتها حاجز بسيط إذا ما تم تجاوزه كان ذلك مدعاة لانكسارات عدة لا تعود معها، تلك الجدارات، تعني الكثير في سياق ممارسة الفعل، أو تأتي كقرار، هو أشبه بالفتوى، التي تقضي ببطلان التحريم السابق لدى القائم بهذا الأخير.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن