من دفتر الوطن

مواسم الهجرة!

| عصام داري

الأرقام لا تكذب، هل تعلمون أن عدد السوريين في المغتربات في مشارق الأرض ومغاربها يفوق عدد سكان سورية؟
وهل تعلمون أن الهجرات تعود إلى عام 1820، وذلك بسبب الأزمات الاقتصادية التي تعرضت لها بلاد الشام في أثناء الحكم العثماني، وكان المهاجرون السوريون يبحثون عن فرص أفضل للحياة الحرة الكريمة، الحياة الأكثر رحابة والأجمل والأحلى؟
مواسم هجرة الطيور معروفة، ونحن في سورية نعرف إشارات الربيع عندما تعود أسراب السنونو إلى ربوعنا، عندها نفتح كل البوابات أمام الربيع الذي يعطي تعليماته للأرض والشجر والعصافير كي يبدأ موسم العطر والشذا وتفتح الأزاهير والورود.
لكن هجرة (سنونوات) سورية مختلفة عن هجرة أسراب السنونو، حتى إن أسماك السلمون تهاجر من موطنها الأول وترحل إلى البعيد، تقطع آلاف الكيلومترات ثم تعود إلى أوطانها متحدية الصعاب والمخاطر التي تنتظرها عند كل شلال، وكل تجمع للدببة والحيتان، وذلك كي تصل إلى البحيرات والأنهار العالية لتتكاثر، فتطرح أجنتها، أو بيضها في المياه الضحلة، ومن ثم تموت وكأنها ترسل إلى بني البشر رسالة تقول فيها: إن الوطن هو مكان الولادة والموت!.
لكن الوطن، كما أراه من وجهة نظري الخاصة، هو تلك الجغرافيا المتداخلة مع البشر لتروي حكاية إنسان عشق المكان، حتى لو كان صحراء قاحلة، فهجر الخرافة إلى الحقيقة.
والحقيقة، كما أراها، هي أن بيت الإنسان هو وطنه، فمن لا يملك بيتاً لا يملك وطناً، وهو على استعداد للهجرة في أي لحظة سانحة، فلا شيء يربطه بالمكان، أو الوطن، وخاصة في حال تحول هذا المكان إلى ملعب كبير للأقوياء والأثرياء والفاسدين، عندها تصبح الهجرة ضرورة حتمية وخياراً وحيداً، أو شبه وحيد، وتصير الهجرة طوق نجاة للذين على وشك الغرق، ولنتذكر الذين ابتلعهم اليم: أطفالاً ونساءً ورجالاً، فالبحر يبتلع كل ضعيف وخائف وهارب من وجه وحوش بشرية نزعت من قلوبها الرحمة.
السوريون الذين هاجروا قبل مئتي عام بالتحديد إلى الأميركيتين وأوروبا وحتى مصر القريبة، أو إلى دول المشرق الأبعد، كانوا ينشدون الأفضل، وعن فرص ضاعت في وطنهم، وقد وجدوها فعلاً في المغتربات، فتحسنت أوضاعهم، أو الأغلبية العظمى منهم، وذلك بفضل إبداعاتهم وانخراطهم في العمل المنتج الذي أذهل سكان البلدان التي هاجروا إليها، وهو نجاح يتكرر اليوم في مصر وفي العديد من دول أوروبا التي فتحت ذراعيها للمهاجرين السوريين المبدعين.
المحزن أن موجة الهجرة الأخيرة التي بدأت قبل عشر سنوات لم تكن بحثاً عن الثراء وتحسين الأوضاع والأحوال، بل هربٌ من موت كان يضرب (خبط عشواء) فيحصد أرواح الناس من دون تمييز بين صغير وكبير، بين امرأة ورجل، وبين شاب وعجوز، ومنذ سنوات عشر والوطن ينزف، ومازال النزف مستمراً.
المحزن أكثر أن الذين هاجروا منذ سنوات قليلة خلت كانوا يهربون من بعبع الإرهاب وشبح الموت، لكن الذين يهاجرون الآن، نعم الآن، يهاجرون هرباً من قرارات وإجراءات وضرائب تضرب (خبط عشواء) أي إنهم يهربون ممن يفترض أنهم رفاق السفر في المركب نفسها التي تبحر في محيطات متلاطمة الأمواج!.
فكروا قليلاً قبل أن يصبح جميع السوريين مشاريع مهاجرين!!.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن