ثقافة وفن

الشاعر العربي والمنبر (2)

| إسماعيل مروة

طبيعة الحياة العريبة، وآليات التفكير العربي، دفعت الشاعر العربي ليكون شاعراً غنائياً، وشاعر منبر بالدرجة الأولى، وطبيعة تكوين القصيدة ا لعربية منذ القدم تدل على ذلك، والتسويغات التي ساقها النقاد والدارسون تؤكد هذه القضايا، وتعزز أن الشعر العربي شعر غنائي خطابي، فعندما درس النقاد منذ القدم بنية القصيدة العربية، قالوا: وقف واستوقف، بكى واستبكى.. ومن ثم فصّلوا في البنية، فقالوا: القصيدة تبدأ بمقدمة طللية، تصف الديار أو في النسيب، قد تطول وقد تقصر، والغاية منها هي التمهيد للدخول في الغرض الأساسي للقصيدة، وعلل الباحثون بأن المقصود بالغرض مدحاً أو هجاء أو أي شيء قد يكون منشغلاً، وتأتي هذه المقدمة تمهيداً بينما يصبح السامع جاهزاً لاستقبال الغرض من القصيدة، وهذا يعني بشكل واضح أن الشاعر العربي على منبر ويخاطب الآخر في جمع، وينتظر أن تصبح الأسماع والأفئدة والعقول متوجهة إليه ليدخل في الغرض والغاية.. بل إن النقاد رأوا أن عنترة هو الذي خرج عن هذه القاعدة وكانت معلقته خارج السياق، فلم يقف على الأطلال وبوعي تام وإصرار على هذا الموضوع، هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم؟
والخروج الفردي عن السياق لا يقاس عليه، علاوة على أن الفروسية عند عنترة بكل تفاصيلها ربما كانت سبباً في خروجه عن المألوف، ودخوله في الموضوع مباشرة، وربما كان وعيه للمنبرية وأسلوب الخطاب الشعري العربي هو الذي جعله يغيّر من أسلوب الخطاب، ويذكر رفضه له بطريقة مباشرة، ليؤدي هذا الرفض دوراً يعزز فكرة المنبرية والغنائية، وهو يقول: الشعراء يفعلون كذا، وأنا لا أفعل ذلك، ولا أريد أن أفعله على الإطلاق، فكان غنائياً في رفضه، وخطابياً، ومنبرياً جذب السامع من خلال رفضه واختلافه وتميزه.
إذاً بنية القصيدة بأي حال هي بنية خطابية، وهذا يتماشى مع فكرة الأسواق الأدبية والشعرية عند العرب من سوق عكاظ إلى المربد، حتى إلى اجتماعهم في الكعبة والأسواق لإنشاد الشعر، سواء كان صحيحاً أم غير صحيح، أو يملك طرفاً من صحة، فإن فكرة المعلقات، وأنها تعلق على: ستار الكعبة، وأنها تنشد في أروقة الكعبة، وكلها سواء كانت حقيقية أم جزءاً من الحقيقة، أم خرافة، فإنها دالة على انتماء الشعر العربي إلى الخطابة والحديث مع الآخر.. وإذا ما وضعنا في حسباننا ما يقال من أن للشاعر مكانة خاصة من الجاهلية إلى اليوم، ومن أنه هو وزير إعلام الخلفاء والحكام وأصحاب المكانة فإن وظيفة الشعر من غنائية وخطابية تتعزز، من الحارث بن حلزة إلى عبيد بن الأبرص إلى زهير بن أبي سلمى، إلى حسان بن ثابت شاعر الرسول الذي أدى مهمة المنافحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الدعوة الإسلامية، والقصة معروفة عندما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم، اذهب وروح القدس تؤيدك، ما يدل دلالة قاطعة على أن مهمة الشعر كانت إعلامية خطابية مؤثرة وفاعلة، وهذا ما لا يناسب شعر الملاحم والمطولات التي تحتاج إلى معالجة أخرى.. واستمر الأمر كذلك في الشعراء العرب في العصر الأموي، وما كان من تناحر قبلي بين القيسية والزيدية يعطي صورة واضحة، إضافة إلى المنافسة السياسية بين جماعات تحولت فيما بعد إلى أحزاب سياسية، كما يؤرخ لذلك الباحث الجليل أحمد الشايب في كتابه (تاريخ الشعر السياسي) والذي يرصد تشكل الأحزاب السياسية الإسلامية، التي تعززت فيما بعد وصارت تيارات لكل تيار منها شعراؤه، وكل تيار يستعين بشعرائه للدفاع عن الآراء.. والمنبرية والخطابية تبدو واضحة عندما يستعين بنو أمية بالأخطل غياث بن غوث لهجاء الأنصار (واللؤم تحت عمائم الأنصار) بينما لم يقبل ذلك الفرزدق وجرير، لأنهما لم يقبلا هجاء أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الشعر العربي غنائي ومنبري خشي الشاعران هذا الفعل لأنه سيصل إلى شرائح كثيرة في المجتمع، وهذا ما لا يتحقق في الشعر الملحمي الذي يبقى حبيس الكتب والورق، وصورة شعر النقائض والتهاجي بين شعرائه يعزز المنبرية، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يتم الهجاء والرد وفق البنية الملحمية للقصيدة، واستمر الأمر كذلك طول فترة الدولة الأموية والدولة العباسية، والأحزاب السياسية التي تعمل على تحقيق أفكار آنية لا تقبل التأجيل، ويعزز ذلك أن غالبية هذا الشعر ضاعت أو طالها النسيان لأنها قيلت في أغراض محددة مثل هاشميات الكميت وشعر عبيد الله بن قيس الرقيات، ولم يذع إلا الشعر الذي يتناول حالات وجدانية خاصة أو أمراً فكرياً عاماً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن