إعادة الاعتبار للثقافة
د. علي القيم
تجمع الحركات الاجتماعية التي قامت في السنوات الماضية، في كثير من دول العالم، على ضرورة إعادة الاعتبار والأهمية لدور الثقافة في حياة الناس، وعلى ضرورة التركيز على الحوار الفكري والعلمي، وأن يعود الاعتبار للعلوم الإنسانية والاجتماعية في عمليات «المنعطف الثقافي» التي يجب أن تتعزز من خلال نشر سلسلة من القيم التعددية الثقافية والوعي، وتعايش الثقافات، وأساليب الحياة.
من يتابع ما ينشر عالمياً، حول هذا الموضوع المهم والحيوي، يدرك جيداً، أن «النعرات الثقافية» قد ضعفت حدّتها، وأن اتجاهات الأبحاث العالمية، أصبحت تؤمن بضرورة البحث عن اتجاهات معيارية مشتركة للثقافات، وذلك لا من أجل إنكار حقيقة الاختلافات الثقافية فقط، ولكن من أجل التصدي للنسبية الثقافية أيضاً، ومن ثم فإن السؤال الذي يمكن أن نطرحه هو: ما العوامل التي تحدد هويتنا باعتبارنا كائنات بشرية، بينما تبرز الاختلافات الثقافية والوطنية القائمة بيننا؟!
يسعى كثير من الباحثين والدارسين، في هذا المجال إلى البحث عن اتجاه جديد يغلب عليه الطابع الإنساني، بحجة أن مجرد الانتماء إلى الجنس البشري، يمنحنا، فيما يبدو، شكلاً جديداً من التضامن العالمي، ولكن هناك من يعتقد أن هذه الإنسانية المشتركة ليست كافية، فهي إنسانية ذات طابع تجريدي مفرط، وأن علينا أن نقيم حوارات بين الثقافات، وأن نتساءل عمّا تعنيه الحياة الكريمة التي ينبغي للإنسان أن ينعم بها.
يقول المفكر المكسيكي «أوليفر كوزلاريك» أستاذ الفلسفة السياسية والاجتماعية في المكسيك، وصاحب مجموعة من الدراسات المهمة عن «النزعة الإنسانية بين الثقافات»: «إن جميع الثقافات والحضارات تنطوي على تقاليد إنسانية، غير أن المنعطف الإنساني، لا يمثل عودة إلى أشكال تقليدية للنزعة الإنسانية، ومن بين المشكلات التي تثيرها هذه التقاليد أنها تسترشد بتجارب تاريخية لم نعد ننتمي إليها، وهنا يجب علينا أن ندرك جيداً أن طابعنا الإنساني يتشكل في إطار ثقافي، ومن خلال الثقافة، ومن الخطأ أيضاً أن نرفض رفضاً باتاً الأشكال التقليدية للنزعة الإنسانية التي يمكن الكشف عنها في كثير من جوانب التراث الثقافي المتمايزة».
القناعة العالمية، تزداد بضرورة الكشف عن العلاقة المتناسقة بين بني البشر والعالم الاجتماعي والثقافي الذي ينتمون إليه، وهذا يمكن أن يساعد على تجاوز الكوارث البيئية والاجتماعية التي تقترن بانهيار العالم الطبيعي في الوقت الراهن، وبظروفنا الاجتماعية، وينبغي تناول هذه القضايا من منظور يستند إلى التبادل الثقافي..
العالم يعيش في مجتمعات تضعف فيها العلاقات الاجتماعية، بسبب تزايد الشعور بعدم الثقة، والفئات الاجتماعية الأكثر ثراء تحاول التعويض عن ضعف العلاقات الاجتماعية عن طريق الاستهلاك، في حين أن أشد الفئات فقراً تعاني عجزها عن إشباع رغبتها في الاستهلاك، وفي كثير من دول العالم يتعرض الناس إلى أشكال قديمة وجديدة من العنف والظلم، كما أن سلوك الدول والمؤسسات «العولمية» تجعل من الصعب على سكان العالم الشعور بالانتماء إليها، لأنها مجردة من أي بعد إنساني.
هنا تبرز الضرورة الملحة للبحث والتفكير في ثقافة إنسانية بعيدة عمّا أحدثته «الحداثة العالمية» في مناطق مختلفة من العالم، فالأفكار والقيم ذات الطابع الإنساني موجودة في جميع الثقافات المختلفة، وليس في ثقافات العالم المتقدم فقط، وهذا ما يحفّز على التفكير فيما تعنيه حياة كريمة وإنسانية.