من دفتر الوطن

زياد والسراويل الممزقة

| حسن م. يوسف

لمناسبة اقتراب موعد تأخير عقارب الساعة ستين دقيقة، تذكرت قول زياد الرحباني: «كل سنة بتقدموا الساعة وبترجعوا 10 سنين لورا»، والحق أن زياد كان ولا يزال من المقيمين الدائمين في رأسي، فهو غالباً ما يساعدني على اكتشاف الوجه المضحك لمآسينا المتفاقمة.
بعض الناس ينظرون إلى زياد الرحباني باهتمام لمجرد أنه ابن جارة القمر فيروز، لكن زياد ليس مجرد ابن بيولوجي لفيروز وعاصي الرحباني، فهو موسيقي ومؤلف مسرحي وصحفي وممثل وعازف بيانو، كما أنه الأكثر صلابة ونقاء ومبدئية بين المثقفين اللبنانيين. وهو برأيي المتواضع، حالة نادرة وغير مكتشفة في الثقافة العربية، وأنا أشبّهه بجبل الجليد الذي لا يظهر منه على السطح سوى تِسْع حجمه الحقيقي.
ولد زياد الرحباني في اليوم الأول من عام 1956، واكتشف والده موهبته قبل أن يكمل السادسة من عمره، إذ سمعه بالمصادفة وهو يدندن لحناً موسيقياً، وعندما سأله أين سمع ذلك اللحن؟ أجابه بأنه لم يسمعه من قبل، بل هو يتردد في ذهنه منذ فترة.
دخل زياد عالم الإبداع من بوابة الشعر ونشر مجموعة شعرية يتيمة بعنوان «صديقي الله».
عندما زار زياد دمشق عام 2008 وقدم خمس حفلات في قلعتها، أجريت معه حواراً مطولاً نشر على صفحتين في جريدة «تشرين»، وقلت في تقديمي له: «في عالمنا الغارق في الأكذوبة، المليء بالمتملقين الذين يتفننون في وصف ثياب الملك وإطرائها، جاء زياد الرحباني ورأى الحقيقة بعينيه البريئتين فأعلن عري الملك من الثياب، وعري حاشيته من الصدق، ولم يتوقف عند هذا الحد كما في الحكاية الشهيرة، بل تابع بصدق جارح كشف عريه وعرينا عبر الموسيقى والأغنية والمسرحية والكلمة المجردة».
عندما سمعت زياد لأول مرة في أواخر السبعينيات كتبت في دفتر ملاحظاتي: «ليس سهلاً أن يكون المرء ابن فيروز وعاصي الرحباني، وأن يُقَدَّم على أنه الوريث الشرعي للتجربة الأهم والأكثر تقدماً في مجال الأغنية والمسرح الغنائي المشرقي الحديث. ليس سهلاً، لأن من يقف بجوار تجربة كهذه يغامر بأن تدمجه في سياقها وأن تسحب ظلها العالي عليه، لكن زياد على الرغم من أنه ولد وترعرع في هذه التجربة، لم يستسلم لإغراءاتها الكثيرة أبداً. لم يكتف بكونه ابن عاصي الرحباني وفيروز- قارورة العطر، فعمل بدأب يستحق الإعجاب، حتى صنع لنفسه اسماً ولوناً. والآن يعرفه الناس في مشارق الوطن العربي ومغاربه كموسيقي مجدد مجتهد، وككاتب مسرحيات وأغنيات، وكعازف بيانو وكممثل».
دعوني أعترف لكم أن زياد الرحباني لا يكف عن القفز في رأسي كلما رأيت صبية أو شاباً في سروال جينز مهترئ ومشقق، فأتذكر ما قاله لي في لقائنا الطويل ذاك عندما سألته عن الموسيقيين العرب الذين يعيشون في الغرب ويعبرون عن أنفسهم عبر القوالب الموسيقية الغربية، يومها قال زياد فكرة تعبّر عما يجري حولنا ببساطة وعبقرية، قال:
«في أعمالهم، لا تعرف إذا كانت هناك نغمة رئيسية، ولا يهمهم هذا الموضوع، فهم يقدمون أصواتاً هرمونية تجريبية، وآخر همومهم أن يرسخ شيء في ذهنك… شغلتهم أن يكسروا الجملة المفهومة. مرة قلت للموسيقي بشارة الخوري: هناك جملة حلوة في هذه المقطوعة لكنك أفسدتها بعدة أشياء، فقال لي: إذا طلعت معي نغمة بسيطة فهم يعتبرونها بالفرنسي Banal أي سخيفة، ويجب (نزعها) بطريقة ما كي يصبح لها طعم! وهذا برأيي نوع من الشذوذ في السماع!» (يضحك).
والحقيقة أن نزعة تشويه كل ما هو جميل وبسيط قد انتقلت من الفنون إلى مختلف جوانب الحياة المعاصرة، ويمكننا رؤية هذا بوضوح حتى في الموضة، فالشابة التي ترتدي بنطلون جينز جديداً ولا تظهر لحم فخذيها من شقوقه تعتبر متخلفة وخارج إيقاع العصر! «فياله من عمل صالح يرفعه اللـه إلى أسفل»، على حد قول أبو نواس.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن