ثقافة وفن

المضامين العلمية والفنية في المخطوطات العربية

| د. رحيم هادي الشمخي

يرى بعض الدارسين للحضارة العربية الإسلامية أنها لم تعن بالإبداعات الفنية عنايتها بالجوانب العلمية والأدبية، لكن الآثار المعمارية والتصويرية والمخطوطات التي تزخر بها الأقطار العربية تشهد بغير ذلك، وفنون صناعة الكتاب التي برز فيها الفنانون العرب دون غيرهم تؤكد أصالتهم، وقدرتهم على الابتكار والإبداع.

لقد ألف العرب في الجاهلية بعض الفنون، كفن الشعر والخطابة، لأنها أقرب إلى طبيعة حياتهم الاجتماعية، وكانت ألفتهم لغيرها أقل من ذلك، لكن بعد امتزاج العرب بسكان البلاد التي وصلتها الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي، ازدهرت أغلب الفنون بمجالاتها المتعددة، وكان «فنا البناء والزخرفة» في مقدمة ما ازدهر منها، أما الرسم فقد تأخر تطوره كفن قائم بذاته، حتى القرن السابع للهجرة «الثالث عشر الميلادي».

وما تزال المعلومات التاريخية قليلة عن التصوير الإسلامي في عصوره الأولى، لكننا نستطيع على الأقل أن نتصور مدى الرونق والبهاء في النفائس الحائطية التي حوتها الآثار المكتشفة في سورية والعراق ومصر وغيرها من العصر الأموي وبداية العصر العباسي.

والآثار الفنية الباقية تشهد للمصورين العرب بالقدرة على الابتكار، وبالمهارة في التصميم، وبقوة التعبير، ودقة الوصف، والخصوبة والمقدرة على التنويع، حيث تعددت مجالات إبداعاتهم في التصوير في الموضوع والمادة والأسلوب، فصوروا على جدران القصور والأبنية بالألوان المختلفة، وعلى الأطباق والأواني، والقناني والبلاطات الخزفية، وصوروا كذلك على الجلد والخشب، والورق، وحفروا الصور والرسوم على المعادن، والخشب والعاج، وتفننوا في التصوير بالفسيفساء، والصور المائية على الجص «الفريسكو»، ولعل أقدم لوحات التصوير الإسلامي التي ما زالت محتفظة برونقها حتى اليوم تلك التي شيدت على الجدران الداخلية لقبة الصخرة بمدينة القدس، وكذلك صور الجامع الأموي بدمشق، وقصور العباسيين في بغداد وسامراء، وقصور الفاطميين الباقية حتى الآن في مصر.

الصور في المخطوطات

لقد كانت الكتب والمخطوطات من المجالات المستحدثة التي برع المصورون العرب في تحليتها بالخطوط والصور التي تظهر معانيها، فقد انتعشت فنون صناعة الكتاب في العصور الإسلامية، نتيجة اهتمام الحكام المسلمين والحاشية المحيطة بهم في عمل مصاحف جميلة لهم، فاستعانوا بأبرع الخطاطين لكتابتها، وأمهر المذهبين لزخرفتها، وكان من نتيجة هذا الإقبال على اقتناء الكتب والمخطوطات أن تطورت صناعة التجليد عند المسلمين، وظهر لها شكل مميز، منذ القرن السابع الهجري.

ومن الطبيعي أن تكون المصاحف أول الميادين التي عمل فيها الخطاطون والمذهبون، وقد كانت العناية الفائقة بالخط سبباً في تطوره، على يد خطاطين فنانين، تفننوا في تجميل حروفه، حتى انفرد الفن الإسلامي بين فنون العالم أجمع بالخط والزخرفة اللذين استعملا على أوسع نطاق وفي جميع المنتجات.

وتشتمل (فنون الكتاب) على فروع الفن التي تساهم في إخراج الكتاب الجميل وهي: الخط والتذهيب والتلوين: كانت الصفحات أوسع مجالاً للصور، ففي القرن السابع الهجري أولع الناس في العراق بالتصوير في الكتب، لتمثيل بعض قصصها، ولم يقتصر التفنن على تجميل المصاحف وزخرفتها فقط، بل (حفظ العرب في كتبهم تاريخاً مجيداً لصناعة التصوير الملونة).

وقد استعيض عن الرقاق التي كانت مستعملة حتى ذلك الحين بالورق الذي أدخلت صناعته في سمرقند أول الأمر، على غرار صناعة الورق الصيني، ثم لم تلبث صناعته أن انتشرت.

وقد حظيت بعض المخطوطات بعناية أصحابها، إذ لم يقتصر الأمر بهم على حرصهم على الحصول على مخطوطات جيدة الخط، بل عهدوا بها إلى غير الخطاطين من الفنانين المسلمين، وذلك لزخرفة صفحاتها بالرسوم، أو تزيينها بالصور، وزخرفة المخطوطات بالرسوم الجميلة بديعة الألوان واصطلح على تسميتها بالتذهيب لكثرة الذهب بين ألوانها، وتعد من أهم الميادين الفنية الإسلامية، فهي توافق الميول الفنية الإسلامية، من حيث استخدام الرسوم المسطحة، ذات البعدين، وبعبارة أخرى الرسوم غير المجسمة.

ونستطيع استجلاء جمالية الفن العربي بصورة واضحة من خلال المنمنمات، والصور الإيضاحية التي بقيت في المخطوطات العربية، المحفوظة في المتاحف العالمية.

مدرسة بغداد في التصوير

وتعتبر مدرسة بغداد المدرسة الأولى في تصوير الصور المصغرة (المنمنمات) في الإسلام التي ظهرت بشكلها العام، ولقد تعددت تسميات هذه المدرسة في الكتب مثل المدرسة (المثيربوثامية)، أي مدرسة بلاد الجزيرة أو ما بين النهرين، والمدرسة العباسية، وكذلك المدرسة السلجوقية، وينسب إلى هذه المدرسة ما رقمه الفنانون في صور مصغرة في المخطوطات الإسلامية التي يرجع عهدها إلى خلافة العباسيين.

ولقد تركت مدرسة بغداد إرثاً ضخماً في التصوير، أهمه فيما بين القرن السادس والقرن الثامن الهجريين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين في رسوم المخطوطات التي تأتي في مقدمتها العمل الفذ الذي أتمه بإبداع (يحيى بن محمود بن يحيى الواسطي) في مخطوطة (مقامات الحريري).

وتعتبر هذه المدرسة أحد الفروع الرئيسية للمدرسة العربية التي تعتبر أولى مدارس تصوير المخطوطات في الإسلام، والتي انتشر تأثيرها إلى كل أقطار الدولة الإسلامية المترامية الأطراف حينذاك.

وكانت أقدم المخطوطات الإسلامية المصورة بعض ما ترجم وألف في الطب والعلوم والحيل الميكانيكية، وأشهرها كتاب (الحيل الجامع بين العلم والعمل) للجزري، ثم كتاب (عجائب المخلوقات) للقزويني، ولقيت الكتب الأدبية حظاً وافراً من العناية، خاصة كتاب (كليلة ودمنة)، و(مقامات الحريري)، وكان وجود الصور في كل هذه الكتب إيضاحاً للمتن وشرحاً له.

ويمكن القول إن أغلب المخطوطات العربية المصورة في القرن الثالث عشر إنما هي ترجمات للقصص التي كتبها الشاعر الهندي بيدبا، ولمؤلفات يونانية في علوم النبات والحيوان والطبيعة والطب، ومن أقدم المخطوطات التي ترجع إلى المدرسة العراقية كتاب في البيطرة، كتب في بغداد سنة (605هـ) (1209م)، وهو محفوظ بدار الكتب المصرية في القاهرة.

تمتاز المدرسة العراقية في التصوير الإسلامي بأنها عربية، فالأشخاص في منتجاتها تلوح عليهم مسحة سامية ظاهرة، وتغطي وجوههم لحى سوداء فوقها أنوف قنواء، وكثيراً ما نرى في الصور المرسومة في المقامات دقة التعبير والمهارة في تصوير الجموع، وأكاليل النور، والملابس المزركشة وغيرها.

وكان المصورون في تلك المدرسة يميلون إلى استخدام الألوان البراقة الخاطفة، ولعلهم يقصدون جذب الأنظار، ثم التعويض عما فاتهم من قصور في التجسيم والمساحة والمسافة، وتمتاز صور هذه المدرسة بالبساطة في الرسم والتكوين الإيقاعي الذي يعتمد على الحساسية في توزيع العناصر، وما تشتمل عليه من خطوط وكتل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن