ثقافة وفن

الشاعر العربي والمنبر (3)

| إسماعيل مروة

لم تقف المنبرية والغنائية عند مرحلة محددة في الجاهلية أو صدر الإسلام، ولم يكن الموقف الإعلامي في الدفاع عن الإسلام والنبي موقفاً طارئاً وعابراً، وحين جاء الإسلام جاء بآراء وأفكار ورسالة، آمن بها العرب، وبين من آمن الشعراء، فأخلصوا الدعوة لهذا الدين وهذه المبادئ، وكان الشعر ميداناً لذلك، سواء في قصائد مطولة، أم في مقطعات.
وانتشار الإسلام لم يوقف هذا التيار من الشعر الغنائي المنبري، إذ سرعان ما عادت القبلية، وانتشرت كما أشرنا سابقاً الأحزاب السياسية التي كان لها شعراؤها، وكان وجودهم ضرورة ملحة وقصوى، وقد نال هؤلاء الشعراء حظوة ومكانة، وكانوا سادة ومدافعين في الوقت نفسه، بل إن عدداً لا يستهان به من الملوك والأمراء كانوا في سلك الشعراء الذين يقولون الشعر الغنائي، بل إن منهم من انغمس في الشعر ومجالسه حتى خلع من الخلافة أو الإمارة.
وأضيف إلى ذلك انتشار مجالس العلم والعلماء، حيث كان الطلبة والعلماء يجتمعون في الزوايا والمدارس المحدثة والمساجد لأخذ الحديث والقرآن والتفسير والأدب واللغة والنحو، وبين هؤلاء عدد من الشعراء الذين يعالجون مسائل أو يطرحون قضايا أو يحتجون بشعرهم أو لشعرهم، فكانت (مجالس ثعلب) و(مجالس الزجاج) ووصولاً إلى (الإمتاع والمؤانسة) وكل هذه المجالس وطبيعتها تحتاج الشعر الارتجالي والمقطعات والغناء والتغني، وكذلك الهجاء، وهذا ما يفسر محدودية الموضوعات التي تناسب الحياة العربية وطبيعتها، ولو عدنا إلى كتب الأدب والشعر فإننا نجد ظاهرة شائعة في الشعر العربي هي ظاهرة التحدي وأن يتم الشاعر ما بدأه شاعر آخر بالبحر نفسه والقافية والموضوع، وبالارتجال، وإذا ما عجز أن يتم حكم لخصمه، ولا يستهان بهذا الجانب القائم على التحدي في مجالس العلماء والخلفاء والشعراء، وما يروى عن هذه المبارزات بين شعراء النقائض، سواء صحّ أم لم يصح يدل على وجود هذا الصنف، فقد يأتي الشاعر بوزن وقافية نادرة ما يحرج الآخر، وهو من وزنه، وعليه أن يتابع عندما يقال له: أَجزْ.. وقصة الفرزدق وزوجه النوار وطلاقه منها بسبب بيت شعر في موقف المبارزة عندما حشر مع قافية الثاء المتابعة بألف تدل على طبيعة الشعر ومكانته.. حتى ما يروى عن جرير الشاعر السلس العذب من قول (لولا هؤلاء لشببت تشبيباً تحن به العجوز إلى صباها) ويقصد الشعراء الذي عملوا على مهاجاته فكان مضطراً للرد عليهم، وإلا كان شاعراً مغلّباً..!
فجرير كان من الممكن أن يعطي في الغزل والحب الكثير
والفرزدق كان من الممكن أن يعطي معلقات في الفخر والأخطل كان للخمرة ووصفها من المهرة والراعي النميري كان من شعراء البيئة والصحراء والوصف طبيعة الحياة القبلية والسياسية والنفسية فرضت على هؤلاء الابتعاد عن ميادينهم التي يحبونها ويبرعون فيها ليغوصوا في ميادين الحياة اليومية وصراعاتها من أجل الحياة والقبيلة والأعطيات وربما لقمة العيش.
كل هذه الأنماط من الحياة لا يناسبها سوى الشعر الغنائي، فالشاعر العربي ليس عاجزاً عن قول الملاحم، لكن لا وقت لها، ولن تسعفه الحياة من أجلها، وهي، أي الملاحم، تحتاج تفرغاً كبيراً، لأن معالجتها مختلفة، وأسلوب بنيتها مختلف.
ومن ثم جاءت مجالس العرب في العصر العباسي لتعج بالغناء واللهو والموسيقا والشعر، نتيجة التلاقح الحضاري والتأثر بالحضارات القادمة، ما زاد قيمة الشعر الغنائي المنبري، وأظهر الحاجة إليه، ويكفي أن نعود إلى مجالس الرشيد والشعراء، ومجالس الندمان والشراب وغير ذلك، لندرك أن طبيعة الحياة السياسية والعقلية والاجتماعية هي التي أفرزت الشعر الغنائي المنبري الذي يحتفي بالسامع أكثر من احتفائه بأي شيء آخر.
صاحب الهوى تعب يستخفه الطرب
قالها وغناها، ولم تكن غناء ومنبراً وحسب، بل كان بحرها كذلك يدعو للغناء والترقيص.. ليس عيباً أو نقيصة، بل إن ما يحسب لهذا الشعر العربي أنه لم يكن منفصلاً عن الحياة والمجتمع لمصلحة الشعر، وإنما كان صورة له وتأريخاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن