قضايا وآراء

لماذا لم يقصم «القيصر» ظهر «الخليفة»؟

| عبد المنعم علي عيسى

كانت كل المؤشرات التي سبقت انعقاد القمة ما بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في سوتشي يوم الأربعاء الماضي، تشير إلى ميزان قوى مختل بدرجة كبيرة لمصلحة الأول على حساب الأخير، والفعل، أي اختلال ميزان القوى، كانت له العديد من المؤشرات التي تراكم بعضها قبيل وقت ليس بقصير، في حين تبلور بعضها الآخر في غضون الأيام القليلة التي سبقت انعقاد القمة، ففي الحالة الأولى يمكن رصد نزعة عربية متنامية للتقارب مع دمشق بدت حثيثة مؤخراً وهي تهدف إلى عودة الأخيرة إلى محيطها العربي، هذه النزعة مرتبطة بنزعة نظيرة لها، لدى من لديهم نزعة التقارب سابقة الذكر، تشي بضرورة إنهاء الوجود التركي في سورية، واللافت هنا في هذا السياق هو أن محاولات أنقرة الساعية للتطبيع مع مصر والسعودية والإمارات لم تنجح في التخفيف من تلك النزعة، بل على العكس فقد زادت منها كما يبدو، ومتابعة الرصد يمكن أن تسجل أيضا ظاهرة خسارة أردوغان، ومعه حزبه، للكثير من رصيدهما في الشارع التركي على وقع التشظيات السياسية الحاصلة داخل حزب «العدالة والتنمية» والتي أدت إلى خسارة الأخير لثلث ثقله في الشارع بعيد خروج حزبين جديدين كانا قد ولدا من رحمه، هذا الوضع كان من الحساسية بحيث لا يحتمل عودة الجنود الأتراك المحملين بتوابيت إلى بلادهم حال اندلاع المعارك، وفي السياق نفسه كانت المرحلة السابقة قد سجلت أيضاً سحب «أزمة اللجوء»، التي كان يستخدمها أردوغان كورقة تهديد يلوح بها للأوروبيين، من التداول، والعديد من المؤشرات التي كانت ترصدها تصريحات المسؤولين، ممن يلوح لبلادهم بتلك الورقة، كانت تشير إلى أن تلك «البضاعة» باتت كاسدة ولم يعد سوقها حامياً كما كان في السابق، وفي الحالة الثانية، أي التي تشمل المؤشرات التي تبلورت مؤخراً، يمكن لنا أن نلحظ نقل العديد من الدول الفاعلة على الساحة السورية لرهانها الذي كان متركزاً على الولايات المتحدة إلى روسيا بعد بروز معطيات توحي بنية الأولى إعطاء «توكيل عام» للأخيرة يخولها بإنضاج حل سياسي للأزمة السورية وفق ضوابط من الراجح أنه تم التوافق على الأساسيات منها، لكن اللحظ الأهم، في هذه الزمرة، والذي قد يعادل، أو يفوق، تأثير كل المعطيات السابقة التي من شأنها إضعاف الموقف التركي، كان قد تمثل في الانكفاء الأميركي الخارجي عموماً، وتجاه نظام أردوغان على وجه الخصوص مما يمكن لحظه في لقاءات الأخير التي أجراها على هامش اجتماعات الدورة الـ76 من أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، هذه الانكفاءة كانت كفيلة وحدها بكشف ظهر «الخليفة» الذاهب للقاء «القيصر» في منتجعه المفضل لديه.
هذه المعطيات التي كانت تراكم المزيد من الضعف في الموقف التركي دفعت بأردوغان إلى إطلاق تصريحات استفزازية كان الظن أن من شأنها إعادة تفعيل «مبدأ المقايضة» الذي استخدمه الأخير بنجاح عندما كانت خطوط التماس التركية الروسية ساخنة في ليبيا وناغورني قره باغ، فهو قال في كلمته التي ألقاها من على منبر الأمم المتحدة: «نولي أهمية كبيرة لحماية وحدة أراضي وسيادة أوكرانيا بما فيها شبه جزيرة القرم التي لا نعترف بضمها»، ثم تلا ذلك التصريح بيان لوزارة الخارجية التركية كان قد أشار إلى «لا شرعية» الانتخابات البرلمانية التي شهدتها شبه الجزيرة بدءاً من 19 أيلول الماضي وعلى امتداد ثلاثة أيام.
شاب القمة أجواء من الضبابية خصوصاً لجهة النتائج التي خلصت إليها، وهو ما ترصده التصريحات المقتضبة التي أدلى بها مسؤولو البلدين، فالمتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف كان قد قال في اليوم التالي لانعقاد القمة إنه «تم التأكيد على تطبيق جميع الاتفاقات بخصوص إخلاء محافظة إدلب من العناصر الإرهابية»، في حين أدلى أردوغان من على متن الطائرة التي أقلته لبلاده بتصريحات للصحفيين جاء فيها: «بحثنا أن الوقت حان لتطبيق حل نهائي ومستدام في سورية، وبالدرجة الأولى للأوضاع في إدلب، وحددنا خريطة طريق سوف تعتمد من وزرائنا في الخارجية والدفاع»، ومن الواضح أن التصريحات السابقة، الروسية والتركية على حد سواء، هي ذات طابع عام ولا جديد تضيفه إلى مسلسل التصريحات التي سبقتها على امتداد الأعوام السابقة، إلا أن تلك التصريحات المقتضبة لا تعني بالضرورة أن القمة كانت «باردة» بدرجة استحضرت معها كل هذا البرود الذي تبرزه التصريحات سابقة الذكر، ومن الراجح أن السخونة الحاصلة في إدلب ومحيطها، وما هو أبعد منهما، كانت تفترض درجات حرارة داخل قاعة اللقاء، هي غيرها التي كانت في منتجع سوتشي البارد هذي الأيام، ولربما كانت الرسالة الروسية الموجهة من محيط عفرين قبيل أيام من القمة وحدها كافية لإعادة «الصيف» إلى تلك القاعة، فقصف الطائرات الروسية لمواقع «فرقة الحمزة» في براد وباصوفان كان يراد منه تذكير أردوغان بأن البقاء في عفرين ومحيطها، وسواهما، هو رهن الإيعازات التي تعطيها موسكو لطياريها المرابطين هناك.
من الراجح أن «القيصر» لم يعمد لقصم ظهر «الخليفة» على الرغم من امتلاكه للأدوات اللازمة للقيام بالفعل لعدة اعتبارات، في مقدمها أنه يرى أن ثمة دوراً لتركيا لا يزال لازماً للضغط على الأميركيين في سورية بغية تسريع عملية سحب قواتها من شرق الفرات، ثم إنه قرأ جيداً تهاوي أحجار الدومينو التركية على امتداد المنطقة، في مصر وليبيا وتونس وآخرها في المغرب، على أن الفعل إذا ما تلاه نظير له في إدلب، فإنه قد يدفع بأردوغان نحو خيارات «شمشونية»، من نوع ذهابه إلى محاولة تكرار السيناريو الإثيوبي مع كل من مصر والسودان، بمعنى ذهابه نحو حجز مياه نهر الفرات عن العراق وسورية، ولذا فإنه، أي بوتين، اكتفى مرحلياً بفتح طريق M4، ثم الضغط على أنقرة بغية فك ارتباطها مع «هيئة تحرير الشام» كطريق أسهل لاستعادة إدلب إلى الحضن السوري الأمر الذي قد لا يطول بعد سوتشي 29 أيلول الماضي، ولربما كانت التباشير الأولى لهذي الأخيرة تقول إنه قد يحدث في خواتيم العام العاشر للأزمة السورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن