ثقافة وفن

مظاهر الإحسان عندما يكون في غير أهله «2» … الإصلاح للمجتمع وأخلاقه حسب تعاليم الأنبياء

يتناول مصطفى لطفي المنفلوطي الإحسان في زمانه منتقداً ومصوباً، وكأنه يتحدث عن زماننا نحن، فهو يشخص مظاهر الإحسان، ويبين أنه يجري غالباً في غير مواضعه، ويشرّح بقسوة هذه المظاهر وينتقدها، ويضع القواعد التي توجه الإحسان، وهذا كله له علاقة بفكرة الإصلاح الديني في تلك المرحلة، فالشيخ محمد عبده رائد الإصلاح، وتلميذه المقرّب مصطفى لطفي المنفلوطي يبغيان الإصلاح الديني في قراءة المفهومات وتوجيهها، وليس المقصود النص الديني المقدس، ولكن ابتعادنا عن القراءة لما كتبوا يجعلنا نقبل ما يأتي من نقد هنا وآخر هناك، دون أدنى معرفة بمفهوم الإصلاح الديني، وكأن الإصلاح الديني يعني إصلاح الدين وإعادة هيكلته! إنه يتناول سوى قراءتنا وتفسيرينا للمجتمعي من شؤون الدين فلنقرأ ما قاله المنفلوطي.

فوضى الإحسان

الإحسان في مصر فوضى لا نظام له، يناله من لا يستحقه، ويحرم منه مستحقه، فلا بؤساً يرفع، ولا فقراً يدفع، فمثله كمثل السحاب الذي يقول فيه أبو العلاء:

ولو أن السحاب همي بعقل

لما أروي مع النخل القتادا

الإحسان في مصر أن يدخل صاحب المال ضريحاً من أضرحة المقبورين فيضع في صندوق النذور قبضة من الفضة أو الذهب ربما يتناولها من هو أرغد منه عيشاً وأنعم بالاً، أو يهدي ما يسميه نذراً من نعم وشاء إلى دفين في قبره قد شغله عن أكل اللحوم والتفكه بها ذلك الدود الذي يأكل لحمه والسوس الذي ينخر عظمه، وما أهدى شاته ولا بقرته- لو يعلم- إلا إلى «وزارة الأوقاف» وكان خيراً له أن يهديها إلى جاره الفقير الذي يبيت ليله طاوياً يتشهى ظلفاً يمسك رمقه، أو عرقوباً يطفئ لوعته.

وأعظم ما يتقرّب به محسن إلى الله، ويحسب أنه بلغ من البر والمعروف غايتيهما: أن ينفق بضعة آلاف من الدنانير في بناء مسجد للصلاة في بلد مملوء بالمساجد، حافل بالمعابد، وفي البلد كثير من البائسين وذوي الحاجات، ينشدون مواطن الصلات، لا أماكن الصلوات، أو يبني بنية ضخمة مرفوعة القباب، فسيحة الرحاب، مموهة الجوانب، والأركان، مذهبة السقوف والجدران يسميها «سبيلاً» ولا يهولنك هذا الاسم الضخم، فكل ما في الأمر أن السبيل مكان يشتمل على حوض من الماء ربما لا يكون بينه وبين ماء النهر إلا بضع خطوات، على أن الماء كالهواء ملء الأرض والسماء، ويقف الضياع الواسعة من الأرض لتنفق غلتها على أقوام من ذوي البطالة والجهالة نظير انقطاعهم لتلاوة الآيات، وترديد الصلوات، وقراءة الأحزاب والأوراد، وهو يحسب أنه أحسن إليهم، ولو عرف موضع الإحسان لأحسن إليهم بقطع ذلك الإحسان عنهم علهم يتعلمون صناعة أو مهنة يرتزقون منها رزقاً شريفاً، فإن كان يظن أنه يعمل في ذلك عملاً يقربه إلى الله تعالى أجل من أن يعبأ بعبادة قوم يتخذون عبادته سلماً إلى طعام يطعمونه، أو درهم يتناولونه، أو يفتح أبواب منزله لهؤلاء المحتالين المتلصصين الذين يسمونهم مشايخ الطرق، ولو أنصفوهم لسموهم قطاع الطرق، ولا فرق بين الفريقين: إلا أن هؤلاء يتسلحون بالبنادق والعصي، وأولئك يتسلحون بالسبح والمساويك، ثم يسقطون على المنازل سقوط الجراد على المزارع، فلا يتركون صادحاً ولا باغماً ولا خفاً ولا حافراً، ولا شيئاً مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها.. إلا أتوا عليه.

أسوأ الإحسان

لم أر مالاً أضيع ولا عملاً أخيب ولا إحسانا أسوأ من الإحسان إلى هؤلاء المتسولين الذين يطوفون الأرض ويقلبونها ظهرا لبطن، ويجتمعون في مفارق الطرق، وزوايا الدروب، وعلى أبواب الأضرحة والمزارات يصمون الأسماع بأصواتهم المزعجة، ويقذون النواظر بمناظرهم المستبشعة، ويزاحمون بمناكبهم الفارس والراجل، والجالس والقائم، فلو أن نجماً هوى إلى الأرض لهووا على أثره، أو طائراً طار إلى الجو لكانوا قوادمه وخوافيه.

وإن شئت أن تعرف المتسول معرفة حقيقية لتعرف هل يستحق عطفك وحنانك، وهل ما تسديه إليه من المعروف تسديه إلى صاحب حاجة، فاعلم أنه في الأعم الأغلب من أحواله رجل لا زوجة له ولا ولد ينفق عليهما، ولا مسكن له يحتاج إلى مؤن ومرافق، ولا شهوة له في مطعم أو مشرب أو ملبس. حتى لو علم أن الانقطاع عن ذلك الخسيس من الطعام والقذر من الشراب، لا يقعده عن السعي في سبيله لا نقطع عنه، وهو لو شاء أن يتزوج أو يتخذ له مأوى يأوي إليه لفعل، ولو جد في حرفته متسعاً لذلك، ولكنه الحرص قد أفسد قلبه وأمات نفسه، فهو يتوسل بأنواع الحيل وصنوف الكيد، ليجمع مالاً لا فائدة من جمعه، ولا نيّة له في إصلاح شأنه به إذا اجتمع عنده ما يقوم له بذلك، بل ليدفنه في باطن الأرض حتى يدفن معه، أو لينظمه في سلك مرقعته حتى يرثه الغاسل من بعده، ولقد يبلغ به الحرص الدنيء والشره السافل، أن يحمل في المال ما لا يستطيع مجاهد أن يحمل في سبيل الله، فيتعمد قطع يده أو ساقه أو إتلاف عينيه أو إحداهما، ليستعطف القلوب عليه، وكثيراً ما يحسد صاحبه إذا رآه أكثر منه دمامة، وأعظم تشويهاً.

كما يحكى أن شحاذا مقطوع الساق قد وضع مكانها أخرى من الخشب تقابل مع آخر كفيف البصر، فتنافسا في مصيبتيهما أيتهما أقذى للأعين، وأقتل للنفوس، وأجلب للرحمة والشفقة، فقال الأول للثاني: لقد وهبك اللـه نعمة العمى ومنحك بسلب ناظريك أفضل حبالة لاصطياد القلوب واستفراغ الجيوب. فقال له صاحبه: وأين يبلغ العمى من هذه القدم الضخمة الثقيلة التي تجلب في كل عام وزنها ذهباً؟

إن أكبر جريمة يجرمها الإنسان إلى الإنسانية أن يساعد هؤلاء المتسولين بماله على الاستمرار في هذه الخطة الدنيئة فيغري كل من شعر في نفسه بالميل إلى البطالة وإيثار الراحة بالسعي على آثارهم، والاحتراف بحرفتهم ؛ فكأنه قطع من جسم الإنسانية عضواً كاملاً، لو لم يقطعه لكان عضواً عاملا، فكأنه هدم بعمله هذا جميع المساعي الشريفة التي بذلها الأنبياء والحكماء قروناً عديدة لإصلاح المجتمع الإنساني، وتهذیب أخلاقه، وتخليصه من آفات الجمود والخمول؛ فهل رأيت معروفاً أقبح من هذا وإحسانا أسوأ من هذا الإحسان؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن