قضايا وآراء

قافلة.. الحوذي فيها هو الشيطان

| عبد المنعم علي عيسى

ثمة مشهدان متناقضان يرتسمان على ضفتي مؤتمر «السلام والاسترداد» الذي انعقد في أربيل أواخر شهر أيلول المنصرم، الأول ذو نتائج سلبية تتأتى بفعل إصرار خارجي، برأس حربة إسرائيلي، على تفعيل فعل النخر الذي يستهدف الحاضنة الشعبية لذات الأمة الجمعية، وصولاً إلى «السطح النخبوي» الذي يفترض فيه القيام بفعل مؤثر في توجيه المزاج العام لهذي الأخيرة، وفعل الإصرار هنا يتأتى أيضاً كنتيجة لقراءة كانت قد خلصت إليها مراكز صنع القرار في تل أبيب، وتشاركها فيه نظائرها في لندن وواشنطن، ومفادها أن سلام الأنظمة الذي رسخته اتفاقات «كامب ديفيد» و«أوسلو» و«وادي عربة»، بل أيضاً اتفاقات التطبيع الحاصلة مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب مؤخراً، كلها لم، ولن، تجلب «السلام» بالمفهوم الإسرائيلي لهذا الأخير، والمطلوب إذاً، وفق تلك القراءة، هو تحصين تلك الاتفاقات بجدارات حصينة لتعتد بدعم شعبي لها لن يحدث إلا في حال النجاح بإحداث انحراف عام في الوعي الجمعي لشعوب تلك الأنظمة، وكذلك لشعوب الأنظمة التي تمارس فعل الإحماء راهناً قبيل اللحاق بأولئك الذين سبقوها، أما الثاني فهو إيجابي بدرجة ما، والإيجابية هنا تتأتى من طبيعة الحدث وتفاصيله الدقيقة التي جرت في غضون انعقاد المؤتمر الذي حاولت سلطة إقليم كردستان العراق النأي بنفسها عنه بدرجة لافتة، بل تثير الكثير من التساؤلات حول مدى الحذر الذي ظهر إبان مقاربتها الفعل، والذي يستر كماً كبيراً من المخاوف إن هي ذهبت إلى الفعل النقيض القاضي بتبني المؤتمر الذي ما كان له أن ينعقد داخل حدود سلطتها إلا بموافقتها، بل بدعم لوجستي مباشر منها.

الإيجابية أيضاً لا تتأتى فقط من نأي سلطات الإقليم بنفسها عن فعل التبني السابق الذكر، فثمة تقارير وفيديوهات وتسريبات كانت قد خرجت بعيد انتهاء هذا الأخير، وهي تشي بالكثير، فالفيديوهات المسربة، كانت ترصد صور المشاركين وهم يضعون، كلهم، كمامة «كورونا» التي تغطي ملامح الوجه بشكل يصعب معها تحديد الأشخاص الذين تم وصفهم على أنهم «نخب» سنية وشيعية وكردية، أما التسريبات فكانت ستة، خمسة منها صوتية فقط وهي لعراقيين، أما السادس فهو صوت وصورة لابن شيمون بيريز، ولعل أبرز تلك التسريبات كان لوسام الحردان، أحد المنظمين والمشاركين، والتسجيل مثل فضيحة من العيار الثقيل وهو يشير بشكل قاطع إلى أن الأخير «النخبوي» لم يكن مدركاً لما كان يقرؤه، والذي كان قد تم املاؤه عليه دون أدنى شك، من دون أن يعرف، المملى عليه، ما المضمون الذي يرمي إليه ما يقرؤه، فالحردان قال بالحرف: «نطالب بانضمامنا إلى اتفاقيات إبراهيم علي الصعيد العالمي»، والمؤكد هنا هو أن العبارة الصحيحة هي «نطالب بانضمامنا إلى اتفاقيات إبراهيم على الصعيد العالمي»، واللافت أكثر هو أن جوقة المؤيدين كانت قد تناقلت تلك التسمية تماما كما وردت على لسان الحردان من دون أن تعطي تفسيرات لها، جدير بالذكر أن تسمية «اتفاقات إبراهيم» كانت قد وردت على لسان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في أعقاب الإعلان عن الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي الموقع بين الطرفين شهر آب من العام 2020، أما التسريب اللافت الثاني فكان لسعد العاني الذي جاء فيه: «العدو الحقيقي هو الفارسي الصيني المتمثل بولاية الفقيه»، مستذكراً: «استمرار الخصومة مع أشقائنا وأبناء عمومتنا اليهود، الذين لهم كل الحق في العيش على أرضهم التي ولدوا فيها وترعرعوا على أرضها وساهموا في نسج أفكارها ومعتقداتها، وساهموا في بناء اقتصادها»، بل أضاف على ما سبق: «وساهموا في ولادة الدولة العراقية المزدهرة الحديثة»، والمؤكد هو أنه لا نجد أنفسنا بحاجة للرد على مثل مغالطات تاريخية كهذه لا أساس لها من الصحة، لكننا أوردنا المثال للدلالة على مستوى «الإسفاف» الذي وصلت إليه بعض «النخب» الحاملة لراية التطبيع مع كيان ما انفك يمارس في محيطه سياسة الترويض حيناً، والعصا الغليظة أحياناً أخرى، للوصول إلى «إسرائيل الكبرى» بالمعنى الجيوسياسي، إذا ما تعذر قيامها بالمعنى الجغرافي لاعتبارات ديمغرافية يبدو أنه بات موقناً أنها تحول دون القيام الثاني.

لم يكن مؤتمر «السلام والاسترداد» هو الخطوة الأولى التي جاءت في سياق اختراق النسيج المجتمعي الثقافي العربي الرافض للبنيوية التي قام عليها المشروع الإسرائيلي، والمؤكد هو أنها لن تكون الأخيرة، فقد سبقتها خطوات لعل أبرزها هو المؤتمر الذي عقد في شهر تشرين الثاني من العام 2019 بلندن، وقد وصفت في حينها «نيويورك تايمز» الحدث بأنه اجتماع لمجموعة تطلق على نفسها اسم «المبادرة العربية للتكامل الإقليمي»، وهي تضم نخباً من ليبيا والمغرب ومصر والسودان ولبنان والعراق ودول الخليج، وقد نقلت الصحيفة في حينها تصريحاً لجوزيف براودي، وهو محلل سياسي في شؤون الشرق الأوسط يهودي أميركي من أصول عراقية، جاء فيه أن «الشعور بكون إسرائيل صديقاً أكثر من إيران، أو عدواً أقل منها هو عامل مهم هنا»، والتصريح ذو دلالة صارخة على أن المحاولة، وما سيليها من محاولات، تنصب على إحداث انحراف في المزاج الشعبي من النوع الداعم لتوجه تبديه العديد من الأنظمة العربية تجاه إسرائيل ومحاولة استبدال إيران بها كعدو يحمل الرقم واحد للمنطقة العربية.

من حيث الزمن انتهى مؤتمر أربيل، لكن ذلك لا يعني أن المحاولات سوف تتوقف عند هذا الحد، وإذا ما كان فعل «التواري» وراء كمامة كورونا هو سيد الانطباعات التي يخرج بها المتابع لذلك الحدث، فإن الفعل قد لا يكون كذلك في المحاولات القادمة التي سيصبح فيها هؤلاء أكثر جرأة، ما لم يجرِ وضع ضوابط لمفاهيم مهمة على رأسها «الوطنية» من أين تبدأ، ثم أين تنتهي، ثم ماهية الحدود التي يرسمها المفهوم السابق لحرية العمل السياسي، وصولاً إلى وضع قوانين تجرم القائم بفعل تجاوز تلك الحدود.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن