متغيرات مهمة داخل «الفصائل المسلحة السورية»
عبد المنعم علي عيسى :
لم يكن ممكناً أن يخرج ذلك الإطار السياسي- العسكري الذي أطلق عليه «جيش الفتح» إلى العلن في 25/3/2015 لولا حدوث ذلك التقارب المفاجئ بين كل من الرياض وأنقرة الذي من الممكن تلمسه منذ مطلع آذار الماضي.
احتوى جيش الفتح على مكونات غاية في التناقض شأنه في ذلك شأن جميع التيارات التي تتبنى فكر السلفية الجهادية حيث الانشقاق يتوقف على فتوى ما لا يكون وقعها واحداً على كل الفصائل أو حتى ضمن الفصيل الواحد، لم تكن تلك الخلافات سطحية أو هي لم تكن تقتصر على وجهات نظر سياسية مختلفة، وإنما كانت تتعداها إلى خلافات عقائدية وإيديولوجية، الأمر الذي وقف عائقاً ماثلاً على الدوام أمام تلاحم تلك المكونات ليلعب التقارب السعودي التركي دور «اللاصق» القسري الذي يجمع بينها داخل إطار واحد، إلا أن ذلك اللاصق لم يكن يشكل دور الجامع فقط فقد شكل أيضاً أرضية مناسبة لبروز الخلافات الداخلية التي أخذت تتوالى بالظهور أمام كل مفترق، والأمر هنا يعود إلى طبيعة الارتباطات الإقليمية التي تفرض على كل تنظيم التزاماته التي قد تأتي مختلفة عن الفصائل الأخرى بل متناقضة معها في أحايين عدة.
حظي جيش الفتح بدعم واسع لا محدود وصل إلى حدود لم تكن مسبوقة كان من السهل رصدها بمتابعة بسيطة، كالتدخل التركي المباشر حتى في آخر المعارك التي كانت تدور بعيدة عن الحدود السورية التركية فقد شهدت معارك سهل الغاب التي أطلقها الجيش السوري 7/10/2015 حالات إسناد ناري تركي كانت قذائفها تطول مواقع الجيش السوري من وراء الحدود التي تبعد عن أرض الميدان مسافات متفاوتة هي في أدناها 25كم، كذلك قدمت السعودية صواريخ تاو التي شكلت حالة «بذخ» ناري كبير استخدمت حتى في المشاهد الدعائية التي يعرضها موقع أعماق وفيها يتم قصف مقار خالية من أي وجود بشري على الرغم من أن سعر الصاروخ الواحد هو 30 ألف دولار. أعلنت جبهة النصرة (تأسست في أواخر تشرين الثاني 2011) في 29/10/2015 عن تعليق مشاركتها بجيش الفتح (التعليق هنا يعني المسمى الأخف وطئاً للانسحاب) إلى حين حل بعض الخلافات كما جاء في البيان الصادر عن الجبهة والمتضمن قرارها بتعليق عضويتها، جاء ذلك القرار صادماً لجميع الفصائل المسلحة ولم يكن متوقعاً على الإطلاق نتيجة لمحورية الدور الذي لعبته الجبهة سواء أكان في التأسيس أم في العمل العسكري داخل جيش الفتح. وهو ما سيزيد من مشاكل هذا الأخير الموجود بكثرة أصلاً ولن تستطيع حالة تضاعف الدعم المقدم (وقد تضاعف إلى باقي الفصائل من أن تغطي حالة الخلل الحاصلة بسبب قرار جبهة النصرة) ما يزيد الطين بلة هو أن قرار الجبهة قد جاء بعد أقل من أسبوع على قرار مشابه كانت قد اتخذته ميليشيا جند الأقصى (في 24/10/2015) وهو ما لا يمكن تفسيره بالقول إن الأمر ناجم عن تصدعات بنيوية (على أهميتها وهي موجودة فعلاً) فحسب بل يجب أن يفهم على أنه ناجم عن خلافات إقليمية سعودية تركية تحديداً التي بدأت تطفو على السطح وهي من النوع الذي لا تحله سياسة «تبويس اللحى» التي يعمد إليها الداعية الإرهابي عبد الله المحيسني لأجل لم الشمل بين الإخوة الأعداء وعندما أعلن هذا الأخير في 6/11/2015 عن عودة جند الأقصى (تأسست في أيلول 2013 على يد أبو عبد العزيز القطري) إلى جيش الفتح، حينها سارع الفصيل السابق إلى إصدار بيان سريع قال فيه: «إننا لم نتلق حتى الآن أي شيء فيما يخص الشروط التي طرحناها لأجل العودة» والمقصود بالعودة هنا إلى جيش الفتح بالتأكيد.
برز الخلاف التركي السعودي بوضوح بعد أيام قليلة على بدء عاصفة السوخوي الروسية (30/9/2015) عندما تمّ الإعلان عن «غزوة حماة» 13/10/2015 الأمر الذي جعل من انطلاق هذه الأخيرة أمراً متعذراً إلى الآن على الرغم من مرور (28) يوماً على إعلانها، يأتي الخلاف السابق على خلفية النهج الذي يفترض اعتماده الآن وقد انعكس خلافاً داخلياً كبيراً بين جبهة النصرة وحركة أحرار الشام (تأسست 11/11/2011) المعروفة بانصهارها داخل العجين التركي كيفما جاء وكيفما ظهر وهو ما دفع بالحركة إلى التجاوب سريعاً مع الطلبات التركية التي كانت ترى تأجيل غزوة حماة والاتجاه نحو حلب التي يشن الجيش السوري عليها هجوماً على عدة محاور وهو ما رفضته جبهة النصرة معتبراً أن تلك الغزوة لها الأولوية على اعتبار أن السيطرة على حماة –كما يرى منظرو الجبهة- سيكون من شأنه أن يهدد تلقائياً كلاً من حمص ومدن الساحل السوري على حدٍّ سواء.
اليوم بات من الممكن القول إن الإطار الذي ظهر عليه جيش الفتح خلال الأشهر الماضية لم يعد موجوداً على الإطلاق ولا آفاق لعودته على الرغم من الجهود الحثيثة التي تبذل من الكثيرين بما فيهم دول في ذلك السياق، على حين يجب النظر إلى التطورات الأخيرة منذ مطلع الشهر الجاري على أنها تدعو إلى القلق فيما يخص تهديد مدينة حماة وخاصة بعد سيطرة المسلحين على مورك 5/11/2015 قرأ تنظيم الدولة الإسلامية ما يجري داخل ساحة أشقائه على أنه يهدف بالدرجة الأولى إلى «التغدي به قبل أن يتعشاهم هو» هذا إضافة إلى وجود رؤيا ثابتة لدى التنظيم بأن الجميع ساعٍ نحو استهدافه ولا يهم هنا أكان ذلك السعي لخلافات عقائدية أم لضغوط إقليمية ودولية بدأت تأخذ منحى شبه جدي بعد فيينا 23/10/2015.
كما قرأ التنظيم غزوة حماة على أنها قرار لا لبس فيه بدحر قواته من الريف الحموي الشرقي الأمر الذي دفعه نحو توسيع رقعة الجغرافيا التي يسيطر عليها كما حدث مؤخراً في مهين في ريف حمص 1/11/2015 وهو سلوك يمكن أن يفهم على أنه ممارسة لأقصى الضغوط العسكرية على الفصائل المعادية التي كانت قد تعالت الأصوات داخلها مؤخراً بقرب اقتلاع التنظيم من معقله في الريف كما جاء (مثلاً) على لسان أبي عيسى (اسمه الحقيقي أحمد علوش عثمان) قائد جبهة ثوار الرقة (تأسست كانون الأول 2013) الذي صرح فيه عن اقتراب ساعة الصفر مطلقاً على المعركة المقبلة «الصبح القريب» 29/10/2015 وما زاد في قلق التنظيم هنا أن تصريحات مشابهة لا تقل نارية عن تصريحات الإخوة الأعداء كانت قد وردت على ألسنة مسؤولين أميركان ولأكثر من مرة وفي العديد من المناسبات.
عندما تمّ هجوم داعش على طريق خناصر- حلب (23/10/2015) في محاولة لإفشال هجوم الجيش السوري حدث ما يوحي بوجود تنسيق (والبعض قال تحالف) بين جبهة النصرة وداعش فقد قامت الجبهة بالتزامن مع هجوم داعش بمهاجمة حاجز للجيش السوري على الطريق نفسه انطلاقاً من «مراغة» وخصوصاً أن وزارة الدفاع الروسية كانت قد أعلنت في 21/10/2015 عن ورود معلومات إليها بوجود اتصالات بين الفصيلين السابقين ما أدى إلى تعزيز التصوّر السابق ليتبين سريعاً فيما بعد بأن الأمر لا يتعدى أن يكون رسائل متبادلة بين الطرفين. في الوقت الذي قام فيه داعش بالهجوم كخطوة استباقية هدف من ورائها إلى نقل المعارك بعيداً عن معقله الرقة وإجبار الآخرين على خوضها متى وأين يريد، فإن جبهة النصرة من خلال هجومها أرادت أن تقول للتنظيم إنها يقظة تماماً لجميع تحركاته وإنها في حال فكر هذا الأخير بمهاجمة مواقعها فهي مستعدة لكل الاحتمالات.
وفي التقديرات فإن داعش ليس ببعيد عن التفكير بمهاجمة الفصائل المعادية له انطلاقاً من رؤيا لديه تقول باستحالة أن يفكر أي طرف (أو أطراف متحالفة) بالإقدام على شنّ هجوم عليه انطلاقاً من اعتبارات عديدة لعل في مقدمها وجود خلخلة عقائدية بين تلك الفصائل (وداخل كل فصيل) فيما يتعلق بالموقف من داعش ووجوب –أو حرمة- محاربته.
أما أن يتعرض داعش لهجوم بري واسع من الجيش السوري فهو أمر يبدو متعذراً على اعتبار أنه لا وجود لمناطق تماس مباشرة بين الطرفين (الجيش السوري + داعش) حيث تشير خرائط السيطرة العسكرية إلى وجود مناطق فاصلة بينهما تسيطر عليها مجموعات مسلحة أخرى ما يعني أن الجيش السوري إذا ما أراد مهاجمة داعش فإن خطوته تلك يجب أن تسبقها خطوة أخرى هي أن يقوم بمهاجمة تلك المجموعات وعلى رأسها جبهة النصرة وحركة أحرار الشام.