ثقافة وفن

الشاعر العربي والمنبر (4)

| إسماعيل مروة

يطول الحديث عن الشعر العربي وخصائصه المنبرية كطريق أبي الطيب المتنبي إلى حلب العظيمة، لأنها كانت مقصده والسبيل إليها ما سواها، والمنبرية هي غاية للشعر العربي منذ القدم، واستمرت الخصيصة المنبرية في الشعر العربي الحديث وستبقى مستمرة، لأنها طبيعة فكر، وطبيعة حياة، وخلاصة تجربة وسياسة ومجتمع، ما يدل على أن الشعر العربي حيّ لأنه لا ينفصل عن واقعه، وفي شعرنا الحديث جدد البارودي، لكن الذيوع لم يحصل لشعره لأنه لم يكن شاعراً منبرياً وجماهيرياً، وعباس العقاد قال شعراً، وهو متين، لكنه لم يصل إلى مستوى شعري، ولم يقارع الشعراء الأدنى منه، للأسباب نفسها، إذ كان شعره عقلياً منطقياً يناسب تصانيفه العقلية، فابتعد عن الشعر والصدارة فيه لأنه لم يكن نابعاً من طبيعة الحياة الثقافية والفكرية العربية في صياغة الشعر والتلقي، وحين نستعرض سيرة أمير الشعراء، وأمير الشعر العربي الحديث أحمد شوقي فإننا سنقرأ أن شوقي لم يكن قادراً على إلقاء شعره، وربما لا يواجه الجمهور، ولكن هذه الخاصية عنده لم تجعله بعيداً، لأنه فهم روح الشعر العربي، فكان يستأجر شاعراً وملقياً في كل مكان يذهب إليه، فكان علي الجارم وهو شاعر أيضاً، يلقي الشعر نيابة عن شوقي، وفي مجمع دمشق ألقى الشعر الذي نظمه نيابة عنه، وأظن أن ذاكرتي تحتفظ باسم شاعر الشام شفيق جبري الذي ألقى قصيدته.. فقد فهم شوقي لعبة المنبرية والغنائية في مكانين، أولهما ضرورة إلقاء شعره لإذاعته ولو من شاعر آخر، وثانيهما حين أدرك قيمة الأغنية واللحن، فاحتضن محمد عبد الوهاب ومن ثم تعاون مع أم كلثوم ليكون شعره سائراً بين الناس، ونجح في الحالتين، خاصة أن لديه بحبوحة مالية ساعدته على ذلك، فكان شعره إضافة لجودته محمولاً بالمنبرية والإلقاء، ومدحياته للرسول صلى الله عليه وسلم (نهج البردة، سلوا قلبي) حقق لهما اللحن والغناء ما لم يحقق الشعر العظيم لسابقيه ولاحقيه من ابن جابر الأندلسي إلى البوصيري.. وكذلك فقد شهدت في دمشق الشاعر المهم أمل دنقل الذي ألقى أروع قصائده وأعمقها، ولكنه لم يكن يملك قدرة الإلقاء، فأخذ عنه مهمة الإلقاء الشاعر الكبير محمود درويش، وهو سيد من سادة الإلقاء والمنابر. وهذا كله يعزز فكرة أن الشعر العربي شعر غنائي منبري غير ملحمي مهما بلغ طول القصيدة، لأن الأمر يتعلق بالبنية للقصيدة والفكر لا بالحجم.. ومحمود درويش عندما قارب الملحمية لم يحقق النجاح الذي حققه في شعره المنبري الذي يخاطب الوجدان، وصوته وإلقاؤه يشهدان بعلو كعبه في تقديم نفسه وشعره، ويشهدان بإدراكه النقدي لطبيعة الشعر العربي ووظيفته.. ومن بعد ومن قبل كان نزار قباني، وكان محمد مهدي الجواهري، ومصطفى جمال الدين وشعراء آخرون مثل عبد الرزاق عبد الواحد ولمعية عباس عمارة رحمهم الله جميعاً، وقد حضرتهم في سورية والإمارات كما حضرت من شعراء مصر الراحل فاروق شوشة ومن لبنان الكبير الراحل جوزف حرب، كان جميعهم يتمتعون بالإلقاء والمنبرية وخصوصية الإلقاء والاستحواذ على الجمهور بالتودد أو اللكنة أو الصوت أو ما شابه ذلك، من موضوع لا يُنسى في جانبه عمر الفرا في فصحاه والعامية، ونزار نحا طريقة شوقي إلقاء وغناء، فلم يترك فرصة للغناء لم يستثمرها، وربما سعى أحياناً ليغني أحدهم قصيدة له، لإيمانه بضرورة الغناء، ومن هنا نجد أن الغناء أثرى تجربة نزار قباني، وجعله أكثر ذيوعاً في وسط الأمية الثقافية والقرائية العربية.
فالشاعر العربي كان وما يزال يؤمن بالمنبرية والغنائية، والمحاولات العديدة التي اتجهت إلى بناء القصيدة الملحمية لم تنجح، وبقيت ملحمة عند شاعرها وحده، أو عند شريحة مستهدفة من هذا الشعر من جورج جرداق إلى عمر أبو ريشة وجوزف حرب وخالد البرادعي، وسواهم، ولا بأس من الإشارة إلى التوقد والفهم الأعلى عند شوقي ونزار قباني لدور الشعر ومنبريته وغنائيته ما أسهم بإمارة الشعر للأول وإمارتها بلا تاج للثاني.
ويسأل السائلون: لماذا لا يوجد شعر ملحمي عربي؟
ويدافع المدافعون: هناك ملاحم!
وما بينما يبقى السؤال: أين الملاحم العربية؟ ولمَ غابت عن شعرنا العربي منذ القدم وحتى اليوم؟
الأمر منا يحتاج إلى متابعة وقراءة واستخلاص نقدي دقيق، دون أن نظن أن ذلك ينقص من قيمة الشعر أو يزيده قيمة..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن