عن التاريخ والموروث و«الاستعمار الجميل»: عندما ينطق ماكرون بما عجِزنا عن قوله!
| فراس عزيز ديب
«عارنا في الجزائر»، ليست مجردَ عبارةٍ قالها كاتب أو صحفي أو حتى مواطن فرنسي عادي قرَّرَ أن يقول كلمة صدقٍ بحق ما ارتكبه الاستعمار الفرنسي في الجزائر، بل هي الفكرة التي أغنتها آراء فيلسوف التمرد الفرنسي «جان بول سارتر» ليثبت لنا حقيقة لا جدال فيها: الاستعمار هو الاستعمار، ما من استعمارٍ جيد وما من استعمارٍ مجرم.
ربما ليسَ على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يُعيدَ قراءةَ أفكار سارتر فحسب، لكن على كل من لا يزال مقتنعاً بأن الدفاع عن الاستعمار تحت أي ذريعة هو واقعية فكرية!
هكذا أعاد الجدال الحاصل بين فرنسا والجزائر حول مفهوم الاستعمار والأمة الكثير من التساؤلات عن فكرة إعادة تقييم المصطلحات، هذا السجال بالمطلق هو عابر للحدود، فجميعنا نحتاج للاستفادةِ منه بسلبياته وإيجابياته؛ بمعنى آخر: تتطلب الواقعية منا الاستماع إلى وجهتي النظر، ففي معركة إثبات الوجود هذِه ليس هناك ما هو سلبي بالمطلق أو إيجابي بالمطلق، فحتى من سمّ الأفاعي يمكننا استخلاص العقاقير، هذا الكلام ينطبق على ما قاله ماكرون، تعالوا لننظر إلى جانب مهم ربما قد يراه البعض ويمر عليهِ مرور الكرام، هذا الجانب يرتكز على سؤال جوهري:
لماذا لا تحتفل الدول العربية بانتهاء الاستعمار العثماني كما تحتفل بانتهاء الاستعمار الفرنسي أو البريطاني وغيره؟
يخطئ من يعتقد بأن كلام ماكرون مبني على فرضية انطلاق الحملات الانتخابية للاستحقاق الرئاسي، هذا اتهامٌ متسرع أرادَ من خلالهِ وزيرَ خارجية النظام التركي إقناع شعبه بأن ماكرون يلهو انتخابياً، أما من يعتقد مثله بأن دولةَ أجداده العثمانية كانت حمامةَ سلام فهو سليم ومعافى! فلا يزال الوقت مبكراً لنرى تأثير الحملات الانتخابية على قرارِ الناخبين، ولنتذكر بأن المرشح الديغولي في الانتخابات الماضية فرانسوا فيون، كان متصدراً لاستطلاعاتِ الرأي حتى قبل أسابيع من الانتخابات، يومَها تم الكشفِ عن تورطه وزوجته بفضيحةِ فساد أنهت حياته السياسية. الأدق أن هذا الجدال بات وجبة فرنسية شبه دائمة على موائدِ النقاش اجتماعياً وسياسياً أو حتى رياضيّاً لأن الشرخ الاجتماعي يتعمَّق. لكننا إذا وضعنا جانباً بديهية أن حُفداء الاستعمار سيدافعون عما ارتكبهُ أجدادهم فإن علينا أن نحاكم أنفسنا، هل فعلياً أننا كنا المادة الأولية لتطاولات كهذه؟
لكي نجيب على هذا السؤال لا بد من المرور إلى النقاط التالية:
أولاً: «خيمة عن خيمة تفرق»
يقولون إن «أم سعيد» في رواية غسان كنفاني أرادت أن تخبرنا بأن خيمة الفدائي تختلف عن خيمة اللاجئ، هناك من يحاول أن يتقمص دائماً شخصيةَ أم سعيد ليخبرنا بأن «خيمةَ استعمارٍ عن استعمارٍ تفرق»، ويتناسى هؤلاء بأن الخيمتين نصبهما فكرٌ استعلائي واحد. في عالمنا العربي هناك من جاملَ كثيراً فكرةَ المفاضلة بين مستمعرَين، فجميعنا يلتمس هذا التفضيل في الكثير من تفاصيلِ حياتنا، فنصمت عنها لاعتبارات تبدو أقذر من الاستعمار نفسه، هناك من يحن للاستعمار الفرنسي وهناك من يرى باستعمار دولة الإجرام العثمانية آخر «دولة إسلامية» متكاملة! ماذا يفرق عن الإرهابي سيد قطب ذاكَ الذي يغطي الإجرام برداءِ الإسلام؟! ألسنا الآن من يدفع ثمن تسمية الاحتلال والاستعمار بالفتوحات؟ كم من فصيلٍ داعشي جاءنا يريد فتح القاهرة ودمشق برعايةٍ أميركية إسرائيلية؟
هنا قد يأتي من يسأل: وهل ينطبق هذا الأمر على فكرة «الانتداب»؟ أليست هذه العبارة هي توصيف محسَّن لفكرة الاستعمار؟ الجواب بسيط وهو أن المقاربة تبدو مختلفة لأننا هنا شئنا أم أبينا فإننا نتحدث عن توصيفِ قرارٍ لعصبةِ الأمم مرتبط بحدث تاريخي له مرامي وأهداف للدول المنتدَبَة، فالأهداف واضحة وصريحة لكل غريبٍ موجود على أرض الغير إن كانَ انتداباً أم استعماراً وهي السرقة والنهب والقتل والتفرقة. ليست المشكلة بما يختاره الآخرون من توصيفات المشكلة بما نقوله نحن والفخ الذي نقع به عندما نكرر ما يريد عدونا أن يعوّمه علينا.
بالسياق ذاته فإن البقاء على رموز الاستعمار هو استعمار بحد ذاتهِ، لا يمكن لك أن تحدثني عن رفضك للاستعمار العثماني أو الفرنسي وأنت تسمي شوارعك بأسماء رموزهِ من المجرمين، بالوقت ذاته عندما تفتتح مسجداً في عاصمة بلدك وتقوم باستدعاء أحفاد أولئك المستعمرين الذين فعلوا مافعلوه ببلدك، هنا عليكَ فعلاً أن تتقبل النقد الفرنسي لأنك من وضعَ نفسهُ بهذهِ المقاربة، إما ترفضهما معاً أو تقبلهما معاً.
ثانياً: هل من مكانٍ للمحاكمات التاريخية؟
في فرنسا يبدو شارلمان الذي يحمل لقب «والد أوروبة» قبل أن يقتسم أحفاده امبراطوريته عبر اتفاقية «فيردان»، شخصية ذات ثقل تاريخي كبير، لها رمزيتها ولها احترامها، لكن بالوقت ذاته ليسَ هناك ما يمنع من صدور عشرات الكتب والدراسات بما فيها رسائل الدكتوراه المتعقلة بالوجه الآخر لهذا الشخص، أي الوجه الإجرامي، الأخطاء، المذابح التي ارتكبها، تعاليهِ على الكنيسة وكل مالهُ علاقة بالتعاطي مع هذا الرجل كإنسان يخطئ ويصيب، لكن حكماً بعيداً عن بدعةِ إن أخطأ له أجر وإن أصاب لهُ أجران. في عالمنا العربي لا نعرف حتى الآن ما هي الحدود التي تجعلنا نقول إن هذا الشخص فوق النقد أو دونه، هناك من يخجل من القول بأن الشخصيات التي يثير انتقادها نزعاتٍ ما هي التي ممنوع انتقادها عندها علينا أن نقف كأن على رأسنا الطير، لأننا لن نجد من ننتقده إلا أبا لهب! لدرجةٍ باتَ التشكيك بالرواية التي تقول إن هناك خليفة عباسي ذهب لنجدة امرأة تركية لأنها قالت وامعتصماه، هو رجسٌ من عملِ الشيطان، فكيفَ ستحاكم الفترة العثمانية، وهناك من يعتبرها فترة ذهبية لهذا الدين الحنيف؟! ماذا لو قلنا بأنه ذهبَ لكونه تعتَّه بجمال صوتها؟ هل الحب حرام؟! عدم قدرتنا على تجاوز هذه الحيثية زاد من نقاطِ ضعفنا وللأسف فإن عدم القدرة على هذا التجاوز عمَّقَ فكرة الانقسام المبطن، هذا الانقسام ظهرَ مع أول ارتجاج لقواعد مجتمعاتنا.
ثالثاً: خرج المستعمر فأينَ نحن؟
لا يخلو نقاش مع فرنسي عقلاني حول فكرة تعظيم الاستعمار ورجمه من السؤال المنطقي: غادرنا فلماذا فشلت بلدانكم؟
ربما قد نعترف بأن معظم دولنا العربية فشلت في بناءِ دولةٍ مرجعيتها الأساسية هي المواطنة بدساتيرَ لا تميز بين أحدهم وآخر إلا بتقوى الإيمان بالوطن، لكن بالسياق ذاته فإن فكرة الاستعمار ليست مرتبطة بوجود جندي محتل على هذه الأرض لأن الفكرة بقذارتها تبدو أوسع من ذلك، من يُجري هذه المقاربة يهدف لطمسَ الحقائق، هو كمن يسأل لماذا هناك لاجئون سوريون وعراقيون وليبيون غزوا أوروبا؟ وبالوقت ذاته يتجاهل بأن الولايات المتحدة دمرت العراق والناتو دمّر ليبيا ودول الاتحاد الأوروبي تحاصر سورية حتى بحبةِ القمح، بمعنى آخر فإن نقل المشكلة إلى سياق يرجع الفشل لأسباب نابعة من قصورنا لا أكثر هو مغالطة والجواب عليها بسيط: هل سمعتم عن قوافلَ لاجئين ليبيين أو عراقيين وسوريين قبل هذه الحروب اللعينة؟
إن الفشل في بناء هذه الدول لا يتحمّل مسؤوليتهُ حكام هذه الدول فحسب، وإلا لنسأل أنفسنا كيف ستقيِّم عمل دولة وانتعاشها الاقتصادي ونصف العالم يفرض عليها حظراً اقتصادياً، إما أن هؤلاء الحكام حاولوا بناء الدولة وفشلوا وهنا علينا ألا نرجمهم، أو أن الغرب الذي يحاضر بهذه الفكرة عليه أن يعترف بأنه شريك بتفشيل هذه الحكومات.
في الخلاصة: يبدو هذا النقاش بحاجة للكثير من الدقةِ في التعاطي معه، يوماً ما قال أحد الفلاسفة إن مباغتة الموت لنا مثل مباغتة التفكير تماماً، ربما من المزعج في مكان عندما يصبح الفكر سبباً للموت أو أشبهَ بهِ، لكن ما هو مزعج أكثر بأننا لا ندرك موتنا البطيء كلما تجنبنا التفكير خوفاً من الموت عندها سننقسم بين من يطبل لمحطةِ قطارٍ بناها المستعمر في حلب، وبين جامعٍ بناهُ أحفاد المجرم سليم في الجزائر، ولا ندري قد يخرج إلينا من يحن لمعبدِ نارٍ بنتهُ إمبراطورية الاستعمار الفارسية.
لكي نتجنب كل ذلك علينا التحرر من قيدِ النقل وفتح الفضاء للعقل، والمفارقة هنا بسيطة: ماذا لو خرجَ سارتر عربي بكتابٍ سماه «عارنا في الأندلس»؟!