اقتصاد

وثائق «باندورا» تفضح المستور!

| د. سعـد بساطـة

هو تحقيق نشره الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، أقام الدنيا ولم يقعـدها! أثار سؤالاً قديماً، حول الثروات الحقيقية لزعماء الدول. ولكن بداية من «باندورا»؟! بالأساطير اليونانية هي تلك المرأة التي كرمتها الآلهـة؛ فمنحتها أثينا هبة الحياكة، وأفروديت هبة الجاذبية، وهيرميس القدرة على الكلام المعسول، ومنحتها هيرا صفة الفضول. تم إرسالها للأرض كهدية لإبيميثيوس الذي قرّر أن يتزوجها على الفور، وبمناسبة الزفاف، قدم زيوس هدية للعروس، صندوقاً طلب منها ألا تفتحه أبداً. لم تكن باندورا تعرف محتوياته، ولكن هبة الفضول نغـّصت عليها حياتها. وقد حاولت تجاهله، فتريثت بفتحه، وباتت تسمع أصواتاً تناديها من داخله، كي تفتحه.
بالنهاية، قررت فتحه لثوانٍ معدودة فقط، وأن تغلقه من جديد. وما إن رفعت الغطاء، حتى شمت رائحة كريهة، وسمعت ضوضاء. كان الصندوق يحوي كل شرور العالم: الموت، الحروب، الأوبئة، الجشع، الكراهية، ذعـرت باندورا وأعادت إغلاقه ولكن الأوان كان قد فات، وانتشرت الشرور بين البشر!
حين أعادت باندورا الغطاء لمكانه، احتجزت فيه هبة أخيرة، وضعها زيوس للبشرية، ونستها بالداخل. بعد مدة، رأت باندورا نوراً ينبعث من الصندوق، فأعادت فتحه، وخرج منه شيء جميل، كانت تلك العطية الأخيرة.. الأمل. تحوّل صندوق باندورا مع الوقت رمزاً لسيل المفاجآت المفجعـة تأتينا من المجهول.
أدى تقرير باندورا لردود فعل واسعة، بعد كشفه إخفاء ملايين الدولارات عبر شركات (أوف شور) لـ«أغراض التهرب الضريبي». ويستند التحقيق الذي ساهم فيه نحو 600 صحفي، لحوالي 11.9 مليون وثيقة، مصدرها 14 شركة للخدمات المالية، وسلط الضوء على 29 ألف شركة (أوف شور)، وتكشف وثائق التحقيق ملايين الدولارات يملكها 35 من قادة بلدان العالم، الحاليين والسابقين في الخارج.
ورد ضمن الوثائق رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، الذي كان يشنّ حملة على الملاذات الضريبية، والذي اشترى مبنى بلندن بـ8.8 ملايين دولار!
وبعيداً عن الجدل بشأن مدى الالتزام بالقانون لتلك العمليات المالية، فإنها تثير جانباً أخلاقياً، يتعلق بمدى معرفة الناس بثروات قادتهم السياسيين، وكذلك التناقض الواضح بين أحوال الناس، (وخاصة في البلدان التي تعاني شعوبها)، من مستويات المعيشة المتدنية. حيث بالكثير من الدول، تتماهى الحدود بين أموال الحاكم الخاصة والأموال العامة، حيث لا يمكن تحديد ما يملكه قبل وبعد توليه منصبه، وتصدر العديد من تقارير المؤسسات الدولية عن فساد السياسيين في أنحاء العالم، فقد قال الأمين العام للأمم المتحدة إن «تكلفة الفساد تبلغ 2.6 تريليون دولار أي 5 بالمئة من الناتج المحلي العالمي».
وقدرت الغرفة العربية السويسرية للتجارة والصناعة حجم الأموال العربية المنهوبة والمخفية بالبنوك السويسرية، بأكثر من 200 مليار دولار، في حين نقل موقع دويتش فيله، أن إجمالي المبالغ العربية المودعة في الخارج، يصل لعدة تريليونات من الدولارات. نعـود لتحقيق الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، المستند لبيانات مسربة ومن ثم للحكومات ذات الصلة. المشتبه فيهم مزيج من السياسيين والمسؤولين وعائلاتهم، من روسيا، والصين وأذربيجان وكندا وتايلاند ومنغوليا وباكستان.
وقد ذُكرت الفلبين بصورة شديدة السوء، بسبب عائلة الرجل المتنفذ الراحل فرديناند ماركوس. وأوردت التسريبات أسماء عدد من كبريات الشركات من بينها شركات بيبسي وآيكيا وAIG ودويتشه بنك. وقيل: إن شركتي والت ديزني وسكايب، ضختا أرباحاً بمئات ملايين الدولارات. عندما يبحث أثرياء العالم عن ملاذات ضريبية لحماية ثرواتهم إلى أين يتجهون؟
هناك معياران رئيسان يشكلان أولوية عند البحث عن ملاذ ضريبي، هما السرية، وإمكانية الوصول إلى الأموال بسهولة.
أكبر الملاذات الضريبية باتت منتشرة بشكل واسع، وبعضها دول صغيرة، لكن البعض الآخر قوى اقتصادية كبرى وقد أدرج تقرير لشبكة العدالة الضريبية لعام 2021 للملاذات فتقاسمت جزر فيرجن البريطانية وجزر كايمان وبارمودا وجيرسي والبهاما وجزيرة آيل أوف مان، وأنجيلا، وجزر تركس، وكايكوس، المرتبة الأولى كملاذات للضريبة بنسبة (100 بالمئة) من حيث أنها جنة وملاذ للشركات المتهربة من دفع الضرائب. تبدي المستندات السرية اتساع هوة اللامساواة بين مالكي الثروات، ودافعي الضرائب من مواطنين حول العالم. ولكن، بخلاف الأسطورة، لا يبدو هناك أي أثر للأمل، خلف صندوق باندورا الأصلي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن