قضايا وآراء

قرع «قسدي» متأخر لأبواب دمشق

| عبد المنعم علي عيسى

على امتداد ثماني سنوات، هي عمر قيام سلطة الأمر الواقع التي مثلتها هنا سيطرة «قوات سورية الديمقراطية – قسد» على مناطق واسعة من شرق الفرات بعيد إعلان واشنطن عن إنشاء «التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية» في العام 2014 والذي اعتد بتلك القوات لاعتبارات ذات مرامٍ أميركية بعيدة كما تكشف، ولا علاقة لها بما أعلن عنه في تلك الفترة، لكن مع لحظ خطأ في القراءة جسيم، ظنت «قسد» من خلاله أن واشنطن ماضية نحو تكرار سيناريو الشمال العراقي، المرتسم في العام 1991 والمتعمق في العام 2003، في مناطق شرق الفرات السوري، على حين أن الأخيرة كانت واضحة السياسة، لمن يحسن قراءة اتجاه هبوب الرياح عن بعد، في محاولتها لجعل الوقود الكردي ورقة مساومة عندما تحين التسويات الكبرى، نقول على امتداد تلك الفترة إنه تخلل تلك الفترة محاولات عدة قامت من خلالها قسد بطرق أبواب دمشق، وإن كان الطرق من النوع الخفيف والذي كان يصب، من حيث المرامي، في خانة مشروعها الرامي إلى خلق كينونة خاصة بالمناطق التي تسيطر عليها، بينما الرؤية كانت تقول إن جزءاً كبيراً من النجاح في ذلك المشروع سيكون مرتهناً بالنتائج التي سيفضي إليها ذلك الطرق الذي لا بديل منه تحت أي ظروف كانت، وأياً يكن الدعم الأميركي المقدم لها، ناهيك عن أن المخاوف التي كانت شديدة الوضوح مما يمكن تلمسها في سلوكيات «قسد» ومجلس سورية الديمقراطية «مسد»، كانت تفضي لحسابات تقول إن قنوات الحوار تلك يحب أن تظل قائمة، والمؤكد هو أن واشنطن كانت غالباً ما تنصح ببقائها كذلك، مع تفاوت في اللكنة التي كانت تستخدمها عند إسداء تلك النصائح تبعاً للظروف واحتياجات المرحلة، وذلك وحده كان من المفترض أن يثير القلق في ذهنية «المسديين» و«القسديين»، ومن ورائهما ذهنية صانع القرار القابع بعيداً في جبال قنديل.
شكل الانسحاب الأميركي من أفغانستان الذي اختتمت فصوله في اليوم الأخير من شهر آب المنصرم، محطة فارقة في ذهنية الطرفين الأولين السابقي الذكر، بل قاد المشهد المرتسم في مطار كابل للأيام العشرة الأخيرة التي سبقت هذا اليوم الأخير إلى حدوث اضطراب في الرؤية لديهما، وكذلك تشويش في «الأجهزة» المعنية بقراءة حركة الرياح، لم يعد مفيداً معها سيل الطمأنات التي كانت تأتي على لسان العديد من المسؤولين الأميركيين والتي كانت تجمع على أن لا انسحاب أميركياً قريباً، أو مفاجئاً، من سورية، وكلا الفعلين، الاضطراب والتشويش، كانا قد ظهرا، أكثر ما ظهرا، في الحراك الذي قامت به السيدة إلهام أحمد الرئيسة المشتركة لـ«مجلس سورية الديمقراطية» التي قامت بزيارة طويلة للولايات المتحدة شهر أيلول المنصرم إبان انعقاد أعمال الدورة الـ76 للجمعية العامة للأمم المتحدة، والزيارة، جملة وتفصيلاً، كانت أشبه بفعل جس النبض الذي يرمي إلى استكشاف المرامي، تلك التي يمكن الوصول إليها عبر تراسيم الوجوه ولكنة اللسان لأولئك الذين ما انفكوا يصدرون البيان تلو البيان، والتصريح تلو الآخر، معلنين أن لا انسحاب أميركياً قريباً، أو مفاجئاً، من الأراضي السورية، والفعل إياه، الذي نقصد به جس النبض هنا، لم يقف حائلاً أمام محاولة السيدة إلهام أحمد مد جسور التواصل مع دمشق داعية، من واشنطن، إلى قيام حوار داخلي سوري يصل في خواتيمه إلى إقرار «اللامركزية» السياسية والثقافية.
هذا القرع لأبواب دمشق يختلف، وإن جاء بسقوف عالية أظهرتها المرامي التي حددتها السيدة أحمد لخواتيم الحوار السوري التي يجب أن يصل إليها، إلا أنه يبدو مختلفاً عن «الطرقات» السابقة كلها، لاعتبارات تتعلق بالظروف المتباينة التي استولدت «القرع» الأخير عن «الطرقات» القديمة، ولاعتبارات أيضاً تتعلق بالإشارات الأميركية التي ما انفكت واشنطن ترسلها من كل حدب وصوب تجاه دمشق، هنا يمكن القول إن الدعوة إلى الحوار هو خطوة استباقية تراها السيدة إلهام من النوع المحصن لمتاريسها قبيل هبوب العاصفة المرتقبة، حيث توحي مراكز الأرصاد بأنها قد تقتلع كل شيء آخذة معها كل الأحلام والآمال التي راحت تنعشها «النسائم» الأميركية على امتداد السنوات الثماني الماضية.
لم توصد دمشق في أي يوم من الأيام أبوابها أمام «التائبين» الذين أخطؤوا بحقها، وحق وطن كان من المخطط له أن يصبح «أوطاناً» بالجملة، ولا هي اعترضت في أي يوم من الأيام على مبدأ الحوار بين الشرائح التي يضمها الشعب السوري الواحد، لكن شريطة أن يكون ذلك تحت سقف السيادة الوطنية ووحدة البلاد، وشريطة أن يذهب «التائبون» إلى إعلان توبتهم، الفعل الذي سيعني عند حدوثه، إقلاعهم عن مشاريعهم السابقة التي ستصبح عندها مهزومة عند مصمميها ومخرجيها قبل أي أحد آخر.
في استكشاف آفاق الدعوة الأخيرة للحوار، التي اختارت السيدة إلهام أن تكون من واشنطن، يمكن القول إنه من الصعب أن تفضي الجولات المقبلة، فيما لو انطلقت، إلى نتائج إيجابية مختلفة عن الجولات السابقة ما بقي هذا السطح السياسي – العسكري القائم راهناً في شرق الفرات ممسكاً بدفة القرار هناك، ولربما كان الشرط الموضوعي الأول لنجاح حوار كهذا الذي يمكن ذكره الآن هو تنحي تلك القيادات كنتيجة طبيعية لفشل مشروعها، إفساحاً في المجال أمام قيادات أخرى أكثر إيماناً بسورية موحدة، فالمؤكد هو أن تينك القيادتين، السياسية ممثلة بالسيدة إلهام أحمد والعسكرية ممثلة بمظلوم عبدي، لم تكونا كذلك، ولربما يكفي للدلالة على ذلك أن نورد مثالاً مهماً كان قد تكشف في الآونة الأخيرة، ففي صيف العام 2020 خرجت إلى العلن تصريحات لكل من إلهام أحمد ومظلوم عبدي تشي بافتراق الاثنين عن منظومة جبال قنديل لمصلحة التركيز على «سورنة» المسألة الكردية في سورية، لكن سرعان ما طويت تلك الصفحة عبر دعوة قيادات تلك المنظومة للسيدة أحمد للتحقيق، حيث ستنصاع الأخيرة إليها بعد ممانعة، وهناك، أي في حضرة منظومة جبال قنديل، غابت السيدة أحمد لمدة تصل إلى شهر ونصف الشهر خضعت خلالها لعملية إعادة تأهيل إيديولوجي، بعيد إعلانها لتوبتها، التي أعقبها قسم بعدم العودة إلى تكرار ما «اقترفه» عقلها الباطن الذي سمح لنفسه في لحظة من اللحظات، تغليب «السورنة» على متطلبات الإيديولوجيا العابرة للحدود.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن