قضايا وآراء

الانفتاح العربي على سورية والسقف الأميركي

| عامر نعيم إلياس

مما لا شك فيه أن الانفتاح العربي على سورية بات أمراً واقعاً، وهو أمرٌ أشار إليه وزير الخارجية السوري فيصل المقداد بشكلٍ واضحٍ لا لبس فيه، وحتى التطورات الجارية على أرض الواقع لا يمكن إلا أن تشير إلى وجود تغييرٍ في مقاربة الملف السوري، فما حدود هذا التغيير؟ وهل الانفتاح مؤشرٌ على تغيّرٍ طوعيّ في التعاطي الدولي مع الملف السوري، أم إنه نتيجة تطورات وعوامل خارجة عن إرادة كل الأطراف وتتحرك نحوها للتكيّف؟
مما لا شك فيه أن سلسلة عوامل أفرزت تحرّك المناخ الإقليمي في التعاطي مع الدولة السورية وعلى رأسها:
أولاً: انتقال محور المقاومة من الدفاع السلبي إلى الهجوم على مختلف الجبهات، فمن حرب السفن بين إيران والكيان الصهيوني، إلى قرار حزب الله استيراد المازوت من إيران إلى لبنان عبر سورية والذي كان بمنزلة حدثٍ هدّد بقلب الطاولة على حلفاء واشنطن والناتو في لبنان أولاً، ومؤشر على تغيير المعادلات التي تحكم التوازنات الدولية والإقليمية في لبنان ثانياً. ما سبق أرغم واشنطن على التعاطي بواقعية ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه والتراجع عن إهمال لبنان كلياً كي تحاول الحفاظ على ماء وجه حلفائها، ولتشير إلى أن دورها في لبنان لم ينتهِ.
ثانياً، صمود الدولة السورية وفشل سياسة أقصى العقوبات في تحقيق أهدافها السياسية، فالدولة السورية تزداد يوماً بعد يوم قوةً وصلابة في مواجهة الحصار الغربي، والرهان على مشهد الانتخابات الرئاسية السورية كان بمنزلة الصفعة التي أعادت سيناريوهات منسية إلى طاولة صانع القرار الغربي.
ثالثاً، انتخابات الولايات المتّحدة وانتخابات إيران الرئاسيتين واللتان أفرزتا إدارتين جديدتين تسعيان إلى ترتيب أوراقهما على صعيد إنعاش التفاوض حول النووي الإيراني، وعلى صعيد إعادة التموضع في المنطقة. فانتخاب إبراهيم رئيسي أعاد صياغة صورة الدولة الإيرانية المتوافقة المتجانسة الموحدة تجاه كامل قضايا الأمن القومي الإيراني والإقليمي دون أيّ أصواتٍ شاذة. أما انتخاب بايدن فقد أفرز حالةً من الترقب تمتد من الكيان الصهوني إلى كامل الدول المعنية والمتأثرة بالنفوذ الأميركي، وكان الانسحاب الأميركي من أفغانستان مؤشراً هو الآخر على وجوب الاستعداد لتغيّرٍ من نوعٍ ما في التعاطي الأميركي مع المنطقة على وجه الخصوص.
رابعاً، موقع سورية الجيوسياسي عاد إلى المشهد العام بقوة، فنحن خلال الأسابيع الماضية بتنا نرى سورية حلقة وصلٍ بين تحرك محور المقاومة تجاه لبنان، وبين تحرك محور الولايات المتحدة تجاه لبنان أيضاً.
ما سبق يشير إلى وجود تغييراتٍ على أرض الواقع أجبرت واشنطن بالدرجة الأولى وتحت الضغط إلى تغيير تكتيكاتها الخاصة بالتعامل مع المنطقة عموماً، والملف السوري خصوصاً، وكان الانفتاح العربي الملحوظ، واجتماعات وزير الخارجية والمغتربين السوري خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، ووصول الاتصالات بين سورية والأردن إلى أعلى المستويات على الصعيد السياسي، خير دليلٍ على هذا التغيّر الذي يمكن القول إنه جاء تحت الضغط الذي مارسه المحور الذي تنتمي إليه الدولة السورية على مختلف الجبهات.
لكن هل التحرك العربي والتطبيع الجاري يعني بالضرورة تغيّر الاستراتيجية الغربية، وهل يسير بأسقفٍ مفتوحة؟
قبل أيام نقلت صحيفة «واشنطن بوست» عن مسؤولٍ أميركيٍ كبير قوله: إن واشنطن «لم تعط ضوءاً أخضر أو برتقالياً، ولم تؤيد الاتصال بين (الملك) عبد الله الثاني و(الرئيس بشار) الأسد. لقد أوضحنا أن قيود العقوبات سارية ولا ينبغي أن يأتي شيء بالمجان»، كما اعترف المسؤول الأميركي أن «إدارة بايدن لن تعمل بنشاطٍ بعد الآن لمنع الدول من التعامل مع (الرئيس) الأسد، إلا عندما يتطلب القانون الدولي ذلك على وجه التحديد»، وهذه التصريحات تثبت أن الأمر قائم على محاولة اختبار الخطوات الجديدة في المنطقة، وتنشيط الجانب السياسي في حلّ الأزمة السورية على قاعدة مراقبة واشنطن لما يجري، مع الاحتفاظ بسيف العقوبات وقانون قيصر مسلطاً على الجميع دون استثناء، وهنا يجب الإشارة أيضاً إلى جملة من الأمور التي تشير إلى أن الانفتاح العربي محكومٌ بسقفٍ أميركيٍّ واضح:
– الاتحاد الأوروبي اتخذ قراراً بتجديد العقوبات المفروضة على سورية، وهذا دليلٌ على عدم وجود تغييرٍ عميقٍ تجاه دمشق، بل يشير إلى استمرار النخب الحاكمة في الانضباط بالموقف الأميركي القائم على تفعيل العقوبات وضمان استمرارها ورهن أي تغيير فيها بالحل السياسي وفق الرؤية الغربية.
– التعزيزات العسكرية الأميركية المستمرة في شرق سورية والتي تسارعت وتيرتها خلال الشهرين الأخيرين، والإشارات المتكررة من جانب النخب الأميركية إلى ضرورة استمرار الاحتلال في سورية، وفي هذا السياق قال السفير الأميركي الأسبق في سورية روبرت فورد: «على العكس من أفغانستان، فإن الوضع في شرق سورية مستقر نسبياً من الناحية العسكرية، ولا يجد بايدن ضرورة للتصعيد (…) والسياسة في واشنطن، على النقيض من أفغانستان، تقف بقوةٍ ضد الانسحاب من العراق وسورية. فأولاً، وافق الحزب الجمهوري مع ترامب على اتفاق عام 2020 بشأن الانسحاب من أفغانستان، وبالتالي امتلك بايدن الغطاء السياسي المطلوب، وإذا راقبت انتقادات سياسة بايدن في أفغانستان داخل الولايات المتحدة، فإن كثيراً من الجمهوريين والديمقراطيين ينتقدون التخطيط السيئ الذي أدى إلى انسحابٍ غير منظّم، لكنهم يتفقون على أن الولايات المتحدة كان يلزمها الانسحاب عاجلاً أم آجلاً.
وبالمقارنة، يعتقد معظم المراقبين في واشنطن أن الانسحاب الأميركي من العراق، وخصوصاً سورية، سيكون مكسباً استراتيجياً لإيران وروسيا، وسيرفع من حدّة الانتقادات ضد بايدن للغاية، خصوصاً بعد أزمة أفغانستان. والقلق الإسرائيلي من الوجود الإيراني في سورية له ثقله السياسي أيضاً في واشنطن. بالإضافة إلى ذلك، تزداد المخاوف من صعودٍ جديد في الجماعات الإرهابية بعد الانسحاب من أفغانستان، وانسحاب بايدن من العراق وسورية سوف يعزز التصورات بأن إدارة بايدن تتجاهل خطر الإرهاب. وأخيراً، وهذا جديدٌ ومهم، هناك لوبي الآن في واشنطن يدعم الأكراد ويؤيد مطالبهم بحقوق الإنسان والحريات الأساسية. وقوبل قرار ترامب بالانسحاب من سورية عام 2019 بانتقادات شديدة من الجمهوريين والديمقراطيين على حدٍّ سواء، وإذا أعلن بايدن عن قرارٍ مماثل، خصوصاً بعد أفغانستان، فإن الانتقادات ستكون أكبر».
– الانفتاح السياسي تجاه سورية وجملة اللقاءات التي جمعت المقداد بعدد من نظرائه العرب وعلى رأسهم وزير الخارجية المصري، لم تترافق بخطوات أكثر عمقاً وقوةً حتى اللحظة وعلى رأسها ملف إعادة سورية إلى جامعة الدول العربية، ولا يزال الحديث حول هذا الأمر غامضاً ويختبئ وراء نيات لا قيمة لها ولا أثر لها، هذا الملف واضحٌ أنه يخضع لقرارٍ أميركيٍ صرف.
– الانفتاح الاقتصادي والتجاري يسير بخطا خجولة لا أثر فعلياً لها على أرض الواقع، وليس لها منعكساتٌ مباشرة تساعد على عكس الوضع الاقتصادي خاصةً في سورية.
العلاقات العربية مع سورية بدأت توضع على الطريق الصحيح، والمسار، إن استمر على حاله دون أي تغيير في الموقف الأميركي والغربي، هو مسارٌ طويل، يستند إلى مراقبة أفق الصراع وأفق التفاوض، وحيثيات الموقف الميداني على الأرض، ويقرر بموجبها ما يمكن العمل عليه لاحقاً. هنا حريٌّ بنا التأكيد على أهمية هذا الانفتاح، لكن دون الإفراط في التفاؤل والترويج لتوقعات غير محسوبة تعطي الانفتاح أثراً رجعياً على الرأي العام داخل سورية، فالانفتاح مؤشرٌ على تغيير، والتغيير أتى تحت الضغط، والسياسة تقوم على استغلال كل الثغرات الممكنة في جدار الحرب الكونية على سورية، وهذه التطورات بدأت ولن تتوقف أبداً، ولن تتراجع الأمور إلى ما قبلها، لكنّ الصراع مستمر، ومسار الحل وُضع على الطاولة مرةً أخرى ويلزمه وقتٌ لإنضاجه وتعويم العوامل الدافعة سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً وميدانياً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن