قضايا وآراء

بين الجنوب والشمال

| منذر عيد

تغلب على المشهد العام في سورية، من الجنوب إلى الشمال، صورتان رئيسيتان، تبدوان متناقضتين في ظاهرهما، صورة جنوبية حيث تحول الأردن إلى محرك لعودة دوران العجلة الاقتصادية وبوابة لإحياء طريق العلاقات الاقتصادية السورية مع دول الجوار والمنطقة، ومن الواضح أن الأردن لعب دور العراب وحارس تلك البوابة بتفويض من الولايات المتحدة الأميركية، وصورة شمالية أساسها ارتفاع أصوات طبول الحرب وقعقعة السلاح في الشمال الغربي والشرقي، «البطل» الأساس فيها النظام التركي وميليشيات «قوات سورية الديمقراطية – قسد» وإصرارهما على مواصلة سياستهما العدوانية المحتلة والانفصالية، وكأنهما في جزيرة منفصلة عن الواقع وعما يجري من متغيرات دولية حول تغيير المزاج العالمي إزاء سورية، وانقلاب صورة 2010 بالمجمل.
تغيرات كبيرة، يمكن وصفها بالإستراتيجية، شهدتها المنطقة مؤخراً وتصب جميعها في مصلحة سورية لجهة الجانب الاقتصادي وتحول الأردن بموافقة أميركية «مبطنة» إلى حلقة وسيطة بين سورية والعالم الخارجي، الأمر الذي يعكس رغبة أميركية بعدم الغوص أكثر في الشأن السوري، وهي إن لم تعلن رغبتها بإعادة العلاقات مع سورية، فإنها تركت الباب مفتوحاً لقيام الآخرين بذلك، حيث تؤكد المعلومات التي نقلها موقع «رأي اليوم» أن السفارة الأميركية في الأردن أعلنت أنه لا مشكلة في إعادة فتح الحدود بين سورية والأردن، وفي تطبيق البروتوكول الزراعي الأردني السوري القديم ولا مشكلة في إلغاء حكومة عمان لقرارات حظر الاستيراد من سورية وسيتم توفير هامش يسمح للسوريين باستيراد مشتقات نفطية عبر الأردن لكن بكميات متفق عليها وليست مفتوحة فيما لن يعترض الأميركيون على مشاركة قطاع المقاولات الأردني في أي مشاريع لها علاقة بإعادة الإعمار في سورية، الأمر الذي فسره موقع «atlantic council»، بأن الولايات المتحدة تتجنب خطأً إقليمياً آخر بعد أفغانستان، حيث تفقد الولايات المتحدة مرة أخرى المزيد من النفوذ والسمعة الإقليمية بدلاً من المطالبة بتنازلات تتماشى مع مصالح الولايات المتحدة.
أياً تكن صفات ومسميات الأبواب التي تسعى الإدارة الأميركية للخروج من «ثوب قيصر» فإن المهم بالنسبة لسورية هو تمزيق ذاك «الثوب»، إضافة إلى خرق جدار العزلة السياسية الذي بنته الولايات المتحدة الأميركية حول سورية قبل أحد عشر عاماً، بتحويل حلفائها في المنطقة والعالم إلى أحجار في ذاك السور، عزلة يمكن وصفها بالماضي، فالحراك الذي شهدته الدبلوماسية السورية ولقاءات وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد في الأمم المتحدة واجتماعات جمعيتها العامة في الحادي والعشرين من الشهر الماضي، إلى لقاءاته في إطار أعمال الاجتماع رفيع المستوى بمناسبة الذكرى الستين لتأسيس حركة عدم الانحياز، تؤكد فشل مفاعيل الحصار الذي حاول أعداء سورية فرضه عليها، كما تؤكد بدء مرحلة جديدة في إطار العلاقات السورية مع الآخرين، وهو ما أشار إليه موقع «atlantic council» بقوله: لا يبدو أن إدارة الرئيس جو بايدن تعمل بنشاط على ثني حلفائها العرب عن استعادة العلاقات الدبلوماسية مع دمشق، حيث أعطت قضية الغاز اللبناني فرصة للوزراء اللبنانيين لزيارة دمشق مرة أخرى في الأول من أيلول الماضي ، واجتماع وزراء من دول عربية مختلفة مع أعضاء الحكومة السورية في الأردن، وهو ما أكده المقداد في حواره الخاص مع «الوطن» بحديثه عن أجواء اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة: «كنا نشعر في قراءتنا بين السطور لمعظم البيانات التي ألقيت، بأن العالم يتفهم أن الأزمة التي فرضت على سورية هي أزمة مفتعلة وهدفها تخريب الدولة السورية».
من الجنوب إلى الشمال، حيث يعيش الاحتلال التركي ونظامه انفصام الواقع، وأوهام السلطنة العثمانية ، وتطبيق حلم «الميثاق الملي»، إضافة إلى مواصلة ميليشيات «قسد» أعمالها العدوانية ضد أهالي المناطق التي تسيطر عليها، وإصرارها على المضي قدماً في مشروعها الوهم «الدولة الكردية» والابتعاد عن الوطن الأم سورية، عبر تحولها إلى أداة ومطية للمحتل الأميركي، كل ذلك يوحي للوهلة الأولى بأن ما يجري في الشمال يخالف المشهد العام في سورية، ويناقض تلك الصورة في الجنوب، فهل هذه هي الحقيقة حول تباعد الصورتين؟
رفع رئيس النظام التركي من نبرة صوته في المناطق التي يحتلها في الشمال الشرقي والغربي من سورية، وأصوات طبول الحرب التي يقرعها هناك، وهو من قال: «نفد صبرنا تجاه بعض المناطق التي تعد مصدرا للهجمات الإرهابية من سورية تجاه بلادنا»، وهذا الأمر ليس سوى محاولة للهروب من التزاماته التي وقعها مع الجانب الروسي، ولإيهام الرأي العام العالمي «بمظلوميته» وأحقية قواته المحتلة في وجودها على الأرض السورية، ليأتي الرد الروسي عبر «الحربي» باستهداف الميليشيات الموالية للاحتلال التركي في الأطراف الغربية لمدينة مارع بريف حلب الشمالي، بمنزلة رسالة كما باقي «رسائل النار» التي وجهها للنظام التركي في إدلب سابقاً بضرورة القضاء على الإرهاب في سورية، والالتزام بمخرجات «سوتشي».
الوهم ذاته تعيشه ميليشيات «قسد» باعتماد أصحاب الرؤوس الحامية من الكرد على بقاء الاحتلال الأميركي لإقامة «دولة كردية» انفصالية، رغم تأكيدات دمشق على لسان المقداد أن «الولايات المتحدة الأميركية تعرف أكثر من غيرها أنها لا تستطيع التلاعب بالبنية الوطنية السورية»، مضيفاً «إذا كان الأميركيون يعتمدون على بنية إثنية فهذا رهانٌ خاسر؛ لأن أشقاءنا الكرد هم من أصل البنية الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية لوطننا ولا يمكن أن يسمحوا هم بالذات لأقلية أن تتحكم بهم تحت أي شعار».
ربما تختلف أولوية إيلاء الأهمية بالنسبة للدولة السورية بين الجنوب والشمال، إلا أن في المجمل وفي البعد الاستراتيجي فهما صورتان لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، حيث من المؤكد بأن الحكومة السورية لن تعمل على نسيان الشمال وترك مصيره بيد قوى محتلة وأخرى انفصالية، للتلاعب بشؤونه ومقدراته، وبحياة الشعب السوري هناك وفق مصالحها، وهي تعمل على تسوية الوضع هناك بقدر شغلها وحرصها على حل الملف الاقتصادي وكسر الحصار والعزلة المفروضة عليها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن