ثقافة وفن

الشعر العربي والمنبر (5)

| إسماعيل مروة

من الوقفات السابقة رأينا أن الشعر العربي، وبصنوفه كافة هو شعر منبري جماهيري يتوجه إلى العامة والخاصة، سواء كان بتكليف من السلطة، أم كان شعراً وجدانياً، والفنون الشعرية العربية دون استثناء هي فنون تتطلب وجود شريك يتلقى، وهذا ما يلائم الشعر العربي، وطبيعة الحياة العربية مهما كان موطنها وشاعرها وحاكمها.. واليوم نسأل السؤال الذي يطرحه كثيرون:
أين الشعر العربي الملحمي؟ لماذا غابت الملاحم عن شعرنا العربي قديماً وحديثاً؟!
الجواب بسيط للغاية، وهو من أصعب الإجابات بسبب روح المماحكة بين الذين يتناقشون، فهذا ينتقص وذاك يدافع، وكلاهما لا ينطلق من رؤية علمية واقعية، وإنما ينطلق من رؤية عاطفية، فهذا يرى نفسه مدافعاً عن أمته، وكأن الأمر ينال من الأمة ولغتها، وربما امتد به الظن إلى قرآنها وعقيدتها! وذاك ينصب نفسه خصماً لا يملك أي نوع من الذائقة العلمية.!
اليونان عرفوا الملاحم من الإلياذة إلى الأوديسة.. والفرس عرفوا الملاحم وأعلاها الشاهنامة، والهنود عرفوا الملاحم كذلك، ونقلنا بعضها بما يناسبنا في كليلة ودمنة، فأين ملاحمنا؟ والرومان كتبوا ملاحمهم وتحولاتهم، فلم لم نكتب ملاحمنا؟
إن اليونان خاضوا معارك الوجود في طروادة، وكانت أثينا الرمز، والفرس خاضوها وبنوا حضارتها قبل الإسلام، والرومان وكانت روما الغاية والرمز، وهكذا فقد اجتمع هوميروس وأوفيد حول تاريخ واحد مشترك، وحول حضارة لا خلاف عليها بينهم، وجاءت الملاحم سجلاً تاريخياً وعقيدياً وأدبياً لهذا التاريخ، بينما نستعرض التاريخ العربي فإنه يجد حروباً مفرقة، ونزاعات قبلية مثل حروب داحس والغبراء، وحروب عنترة الذاتية الفردية، وحروب الهلالي وابن ذي يزن، وهي نزاعات قبلية فردية لا يجتمع عليها الناس والشعراء، وفي كل جانب من يدافع عنه، فعن أي شيء تصاغ الملاحم؟
إضافة إلى أن الملاحم العربية أخذت الجانب الأسطوري، وصيغت بسير شعبية تسير بين الناس يتناقلها الحكواتية في مجالس التسلية والسمر، ما أفقدها القدرة الإبداعية على أن تكون صنفاً واحداً أو جنساً أدبياً خالصاً! ومن درس الأدب الشعبي فإنه يعرف أن هذه الأساطير، والأسطورة تستند إلى الواقع، غير معروفة الكاتب والمبدع، فهي حكايات تتناقلها الأجيال، وكل واحد يزيد عليها حسب ميوله وهواه وقبليته!
فالعرب برعوا في الحكاية الشعبية التي ضمت نثراً هذه الحياة، وقدموا نماذج بارعة من السير الشعبية وملاحمها، وكانت الصحراء والقيم هي البطل الأساس، والعلاقة وطيدة بين المسرح والملحمة، والعرب لم يكونوا أصحاب مسرح، والعقيدة ابتداء من الوثنية كانت مختلفة عندهم، وعلى الرغم من الوثنية عندهم إلا أن مفهوم الألوهة واضح، والآلهة محددة يتم التوصل من خلالها إلى الإله الذي له بيت معروف ومحدد، ولكن الملاحم والأساطير التي برعت فيها تلك الشعوب، فقد أعطت البطل صفة خارقة مستمدة من الآلهة المتعددة، إله الجمال وإله الخير وإله القوة، وكلها كانت ذات مرجعية مجتمعية لا خلاف حولها بين العامة والمبدعين أصحاب الملاحم، وليس الأمر كما عند العرب في الصراع بين الآلهة المتعددة الموجودة بينهم، والمصنوعة من أيديهم، بينما كان التعدد في الآلهة عند الأمم الأخرى أمراً فكرياً تجريدياً ينطلق إلى رموز هي التي تتحكم بالحياة والأبطال، ما أعطى قدرة خيالية في صنع الملاحم.
والفكر العربي، ومن ثم الإسلامي جاء لوضع الأمور في نصابها وفي مكانها، فرفض التهويل والمبالغة، ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن لبني عبس عبداً يدعى عنترة يقابل الفارس أو الفارسين، وفي لقائه مع ماوية بنت حاتم الطائي قال: خلوا سبيلها، فإن أباها رجل كان يحب مكارم الأخلاق، وهاتان الشخصيتان مثالان على إمكانية صنع ملاحم في البطولة والكرم.
فالفكر العربي والشعر العربي انسجما في شعر يناسب الحياة، وتركا أمر التأريخ الذي قامت به الملاحم لكتب التاريخ والسيرة والتي تخضع للمنطق والرغائب والسلطة الحاكمة، وهذا ما يلائم الفكر العربي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن