«ريحة الطيون ياستي»، جملة خلدتها بصوتِها صديقة صباحاتنا فيروز، وهل هناكَ أجمل من رائحة الطيون إن امتزجت بندى الصباح وقتَ شروق الشمس؟! إلا في هذا الشرق البائِس حيث تتحول «الطيونة» إلى صورةٍ للإجرام ورائحةِ الدماء ويتحول القتلة إلى «حراس هيكل» من قال إن أبا بكرٍ البغدادي يتجلى فقط بصورةِ «جئتكم بالذبح»؟! هناك من هو أسوأ، تحديداً عندما تتحول أضلاع الصليب إلى سكاكين وخناجر تقتل الأبرياء بيد، وتطلب الأبدية لذكراهم باليد الثانية، هؤلاء جاهزون ليطلبوا من الرب ألا يعطيهم خبزهم كِفافَ يومهم، بل مزيداً من الدماء حتى ترتوي أنفسهم الإجرامية، من قال إن متطرفاً عن متطرف يختلف؟!
لم نكن لنصدِّق بأن التقاء اليمين الإرهابي المتأسلم باليمين المسيحي المتطرف، سيمر من دون مباركة من اليمين الأقذر، اليمين الصهيوني المتطرف، انتفض الإرهابي إيدي كوهين وأطلق هاشتاغ «حكيم لبنان» في توصيف المجرم سمير جعجع، بدا البعض وكأنه يسخر من كوهين لكن ما الذي قاله كوهين ولم يقلهُ نصف اللبنانيين على الأقل؟
تجاهلَ كثر حدث قتل الأبرياء بدمٍ بارد، وبدأ حتى من هم من الخط نفسه يتبادلون اتهامات حول المسؤول الحقيقي عن إخراج الأفعى من سجنها، فريقٌ ظن بأن تبديل الأفعى لجلدها سيعني بأنها ستصبح يرقة حرير وادعة، كانوا يظنون بأن موجبات السلم الأهلي تتطلب عودةَ الجميع إلى حياتهم العادية، عليهم أن يعترفوا الآن بأن السلم الأهلي كذبة طالما البلد تنخرهُ نار الطائفية. فريق ما زال يصف المجرم الأكبر بشير الجميل بـ«الشهيد» حمَّلَ مسؤولية إخراج الأفعى من سجنها لقيادات الأحزاب التي ينتمي إليها الضحايا، وتناسى هؤلاء بأن «عِمَادَهم» صاحب قانون «محاسبة سورية» كانت أول زيارة له بعد عودتهِ من منفاه إلى وكرِ الأفعى.. متضامناً!
جميعكم أخطأَ بطريقةِ التعاطي مع الأفعى تحديداً بعدم فهم الهدف الحقيقي من إصرار الغرب بعد مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري على إخراجهِ من السجن، لتصبح فكرة الفتنة السنية الشيعية موضة قديمة، ماذا لو فكرنا بفتنة مسيحية شيعية؟
لم تكن هذه الفكرة وليدة اللحظة، ولم تبدأ بعد تكرار التصريحات من اليمين المسيحي المتطرف حول جاهزيتهم لاقتلاع المقاومة بالقوة، ربما قد لا نخطئ إن قلنا بأن جذور هذا التفكير بدأَت مع زيارة بطرك التطبيع للكيان الصهيوني والتقائه هناك بشتات اليمين المسيحي المتطرف، هذه الزيارة وما تلاها من تصريحات مردودة على صاحبها ساوت بين زيارة الكيان الصهيوني وزيارة سورية، كان هدفها الأول والأخير وضع الحطب تحت الموقد على أمل أن ينفجر حزب اللـه داخلياً.
يومها كان مزاج البطرك بحالٍ سيّئ، كيف لا وهو يرى الصور المتداولة لعناصر حزب اللـه برفقةِ إخوانهم في الجيش العربي السوري من القصير وغيرها، وهم يسجدون في محراب الكنائس التي دمرها «الثوار» وحماها الحزب، وهو يقاتل تحت راية الجيش العربي السوري؟ تخيلوا أن يخرج على التلفزيونات بعضُ المواطنين السوريين ليتحدثوا عن مناقب وأخلاقيات عناصر الحزب؟ تخيلوا أن يرى مسيحياً مازلنا نحاول إقناعه بأن هذا الحزب إرهابي، صورةَ مقاتلٍ يمسح غبار المعارك عن تمثال السيدة العذراء عليها السلام! إذاً ما نفع آلة الإعلام التي كانت ولا تزال تقول للمسيحي اللبناني: هذا الحزب يريدك أن ترتد؟
فكرة التحضير لفتنة شيعية مسيحية ليست كلاماً في الهواء وليست للاستهلاك فما هي محددات النجاح؟!
دائماً ما نقول بأن الحرب الأهلية بحاجةٍ إلى طرفين مشبعين بالحقد والرغبة بالانتقام:
الطرف الأول لدينا متوفر وهم بالمناسبة لا يخفون ذلك وبكل صراحة يتحدثون عن استعادة سيناريوهات الحرب الأهلية، ليسَ أدل على ذلك من توصيف المجرم سمير جعجع لما حصل بأنه 7 أيار مسيحي شيعي، علماً أن حليفه وليد جنبلاط كان قد اعترفَ ذات نفسه خارج «لحظات التخلي» بأن ما أرادوه في ذاك السابع من أيار كان مخططاً أميركياً، ترى كم سيطول الأمر حتى يعترف فيه المجرم سمير جعجع بأن ما جرى في هذا السابع من أيار كان مخططاً أميركياً؟!
إن تعويم هذا المصطلح هدفَ من خلاله إرهابيو القوات، اكتساب المزيد من فرط القوة، هذا الأمر يفيدهم بتقديم أنفسهم كدرعٍ لحماية المسيحيين، بالوقت ذاته استعادة ما يمكن استعادته من شعبية مسيحية لدى التيار الوطني الحر تحديداً في ظل تقدم ميشيل عون في السن والارتباك الواضح في الخطاب الذي يقدمهُ رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل.
كذلك الأمر فإن على «القواتيين» أن يستوعبوا فكرة أن الزعامة المسيحية لا تصطدم بجدار التيار فحسب، هناك من بين حلفاء جعجع من يحاول تقديم نفسه كبديل محتمل، وهناك من تواسطَ عند السوريين مستوضحاً عن موقفهم من دعم ترشيحه للرئاسة مع ضمانات بتعديل خطاب حزبه المشتت بما يتعلق من سلاح المقاومة، إذاً من يظن بأنه قادر أن يعبر عبر فتنة مسيحية شيعية عليهِ أن يتلافى أولاً فتنة مسيحية مسيحية، يجمعهما اليمين المتطرف!
أما الطرف الثاني فلا يبدو بأنهُ في وضعٍ يحسد عليه، فمحاولات ضرب الثنائية الشيعية لم تهدأ منذ انتشار تسريبات تتعلق بالموقف الحقيقي لقيادات حركة أمل من «مغامرة حزب اللـه في العام 2006»، لكن الواقع فرضَ تجاوزاً لكل هذه التسريبات وربما نكاد نجزم بأن هذا التجاوز يكشف عمق العلاقة، بالوقت ذاته لا يمكن القول بأن الطرفين ساذجين لدرجةِ التورط في حربٍ أهلية، وربما امتصاص ما جرى سيكون على عاتق الأمين العام لحزب اللـه السيد حسن نصر الله، لكن السؤال اليوم لم يعد إذ كانت الثنائية ستحاول امتصاص الصدمة؟ السؤال إلى متى ستستطيع امتصاصها؟
لا أحد بإمكانه الإجابة عن هذا السؤال، لكن ما نستطيع قوله إن ما جرى فعلياً لا يبدو كنزهة قتل قام بها ثلة من شذاذ الآفاق، الأخطر بما جرى أنه قد يكون البداية وليس النهاية، وهذا بالمطلق يعتمد على ردات الفعل، من حادث خلدة وتفجير ميناء بيروت وإصرار الغرب على معرفة نتائج التحقيقات، مروراً بالاعتداء على الناخبين السوريين وصولاً إلى حادث الطيونة، جميعها تبدو بروفات لما يجري التحضير لهُ، فالمجرم يعرف بأن الطرف الآخر لن يرد حفاظاً على الكثير من المُسلّمات، على هذا الأساس فإنه سيكرر الأمر بجولة جديدة من مبدأ من أمِنَ العقاب أساءَ الأدب، ولعل «قلة الأدب القادمة» هي بالتصعيد السياسي والشعبي المدعوم غربياً بما يتعلق بتحقيقات انفجار مرفأ بيروت، فمازال طموح وصول قوات دولية إلى لبنان حلماً لم يستطع البعض التخلي عنه، فهل سينجحون؟ الإجابة مفتوحة تحديداً عندما لا ندرك بأن المجرم لن يفهم في السياسة ولا يمكن له أن يطربَ لرائحة الطيون بعدَ أن أدمن رطوبة السجن.