الأولى

الجزئي والكلّي

| بقلم: أ. د. بثينة شعبان

عبّرت وسائل إعلام كيان الاحتلال الأسبوع الماضي عن خيبة أمل في إسرائيل من تجاوب الولايات المتحدة مع الضغوط الإسرائيلية من أجل اتخاذ موقف أكثر تشدّداً من إيران والمباحثات الجارية بخصوص الاتفاق النووي الإيراني، إذ كان واضحاً منذ سنوات أنّ كيان الاحتلال هو الذي يقف ضدّ اتفاقية الدول الخمس زائد واحد مع إيران، وهو الذي مارس تأثيره عبر اللوبي الضاغط التابع للكيان على الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب للتراجع عن الاتفاق مع إيران، إلا أنّ الأمر لا يبدو بهذه السهولة اليوم؛ إذ انشغلت صحف كيان الاحتلال بتسليط الضوء في الأسبوع الماضي على أنّ جولة المحادثات بين الطرفين الإسرائيلي والأميركي في واشنطن لم تنجح في سدّ الفجوات بالمواقف، وأنّه ليس هناك اتفاق بين الطرفين على طريقة مواصلة العمل، كما أنّ الحوار جارٍ في الولايات المتحدة بين اللوبيّات المؤيدة للكيان وأخرى تفضّل التركيز على الوضع الداخلي والاهتمام بالخدمات والسلم الأهلي، إضافة إلى عدد من المقالات المهمة الصادرة في الولايات المتحدة عن عسكرة الصراعات، وتغيير أسلوبها في التدخل في شؤون الدول بعد محاولاتها الكارثية في العراق وأفغانستان وليبيا وسورية واليمن التي أدت إلى تدمير هذه البلدان وقتل وتهجير وتجويع الملايين من شعوبها ونهب ثرواتها من أجل ضمان أمن كيان الاحتلال.
ولكن، وبالتزامن مع هذا النوع من التقييم الذي يُظهر الولايات المتحدة وكأنها اختلفت عمّا كانت عليه في عام 2003 حين قرّرت غزو العراق، فإنّ سياسة الولايات المتحدة بأشكال أخرى مستمرة بالتدخل في شؤون الدول من خلال أدوات مخترقة في هذه الدول، ومن خلال عمليات استخباراتية سياسية تتحكّم بالسلطات عن بعد، أو عن طريق أدواتها من العملاء والخونة والإرهابيين، وبالتزامن أيضاً، نلحظ تركيزاً وانتشاراً لقصص يروّجها كيان الاحتلال عن الحوار والديمقراطية، وأهمية الاتفاقات الإبراهيمية والمسار الإبراهيمي مع البدء باستخدام مصطلح «أمة إسرائيل»، والتركيز أكثر على الرؤية الإسرائيلية للمنطقة والدعوات الكاذبة للعيش بسلام والتسامح، ولكن مع التأكيد الصريح من قبل قادة الكيان أنّ مسار السلام هذا لا يمكن له أن ينتظر حلاً للقضية الفلسطينية، والسبب هو أنّ «الفلسطينيين غير راغبين بالحلّ، ولديهم فيتو للتعامل مع إسرائيل».
يحمل هذا المنطق للعرب جميعاً تفكيراً استراتيجياً يتمّ تنفيذه على مرحلتين: المرحلة الأولى هي استخدام سطوة الولايات المتحدة للإبقاء على إغلاق الحدود بين الدول العربية، والتركيز على خلق الفتن داخلها وتغذية العملاء وصهاينة الداخل بالمال والأفكار والخطط لإضعاف أيّ توجّـه قد يهدف إلى إنقاذ البلاد من الوقوع في أيدي الأعداء والخصوم، ومن الناحية الأخرى تصعيد الخطاب الإعلامي والسياسي الصهيوني الداعي إلى الحوار والتفاهم والعيش المشترك من خلال تنفيذ المسار الإبراهيمي الذي يهدف إلى سلب البلدان خصوصيتها ومقوماتها الحضارية وتسطيح الانتماء، والارتماء في أحضان الصهاينة المنظّرين لهذا المسار والعاملين على تحريكه وتنفيذه.
المفارقة هنا بين الأسلوب المتبع من الصهاينة وبين ردود أفعال حكام بعض الدول العربية مفارقة كبرى، مازالت الأجيال العربية تدفع ثمنها دماً وتضحيات نحن بغنى عنها لو امتلكنا أساليب أفضل للتفكير والتخطيط وبناء البلدان، ففي الوقت الذي يخطط فيه الأعداء لمئة عام قادمة نلحظ أنّ اللهاث وراء الأحداث، والاندفاع اللحظي لمعالجة الموقف هو سمة من سمات تاريخنا العربي للأسف، إضافة إلى أنّ آخر الدراسات لدى الخصوم والأعداء تقول بتخصيص 50 بالمئة فقط من ميزانيات الأمن والدفاع للشأن العسكري، والـ50 بالمئة الأخرى لمراكز الأبحاث ومراكز التفكير ولنسج القصص وبثها وتوزيعها وتسويقها على أوسع نطاق عالمي.
من يقرأ خطاب رئيس الكيان الصهيوني إسحاق هيرزوغ في مؤتمر جريدة «الجيروزاليم بوست» يظنّ أنه يتحدث عن جمهورية أفلاطون الفاضلة وهو يدعو الدول في الشرق الأوسط لتقليد هذا المسار الإبراهيمي الذي يصفه بأنه مسار الحوار والعيش المشترك ويدعو إلى المحبة ونبذ الكراهية والعنف. وقد يسأل الكثيرون في محيطنا العربي: ومن يُصدّقه وهو يُنزل أبشع أنواع الظلم والتعذيب والقهر والاحتلال بالشعب الفلسطيني؟ ولكن يجب ألّا نفترض أنّ المتلقي لهذا الخطاب متخصّص بالشؤون الفلسطينية أو المتوسطية، وأنّ الأكاذيب الصهيونية عمدت على مرّ عقود على افتراض واقع والعمل على خلقه من خلال احتلال الأرض وزرع الأوهام واستنباط القناعات في عقول الناس، فبعد أن أنهى السفير الأميركي دافيد فريدمان خدماته الجليلة للكيان الصهيوني، وانتهى عمله كسفير افتتح «مركز فريدمان للسلام من خلال القوة في القدس» وبدأ ببثّ وثائقي عن اتفاقيات أبراهام.
في الوقت الذي يحاول العراقيون معاجلة مشكلة الانتخابات العراقية، واللبنانيون معالجة مشكلة التحقيق في المرفأ، والليبيون معالجة الانتخابات القادمة، وكلّ بلد عربي لديه من الملفات الآنية ما يستغرق وقته وجهده وميزانياته، نجد أنّ الكيان الصهيوني ومؤيديه يخطّطون لمرحلة خمسين سنة قادمة متجاهلين القضية الفلسطينية، ومتعاملين بقبح ووقاحة مع أرض سورية، يشيعون فيها الاستيطان ويدّعون امتلاكها زوراً وبهتاناً.
في خضمّ هذا الواقع الصعب والمعقد قد يحتاج الجميع إلى وقفة متأنية، وتخطيط مختلف وتكريس الموارد في مناطق لم نولها الاهتمام الكافي من قبل؛ حيث كنّا نعتقد أنّ المعركة العسكرية كافية لحسم كلّ الأمور، ولكن، ومع أهمية الحسم العسكري، فإنّ إسناد التخطيط والتفكير والترويج والتسويق هو إسناد مهمّ، وأصبح اليوم من أهمّ الأدوات التي يستخدمها الأعداء ضدّنا، وبما أننا في معركة وقد غيّر العدوّ أسلوبه بوضوح، فلا بدّ لنا من تغيير أسلوب المواجهة.
قد يكون الانطلاق إلى العالمية في التفكير والتخطيط والعمل هو بند مهم من بنود المواجهة الجديدة وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ ما قامت به الكاتبة الإيرلندية الشابة، سالي روني، من رفضها السماح بترجمة روايتها الجديدة «العالم الجميل» إلى العبرية أحدث أثراً في النخبة الغربية عن القضية الفلسطينية، وعن حقّ الفلسطينيين، نعجز نحن عن إحداثه بسنوات.
المختصر المفيد هو القول إنه لم يعد من المجدي أبداً أن يعمل العرب بـ«القطعة» و«الجزئية» في الوقت الذي يخطط أعداؤنا لمنطقتنا ولمستقبل هذه المنطقة بشكل شامل ومتكامل وعلى مدى عقود قادمة، ولا بدّ اليوم من أن ترتقي أدواتنا إلى مستوى الأدوات المستخدمة ضدّنا أو أن تتفوّق عليها إذا أردنا أن نكسب المعركة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن