الصفحة الأخيرة

جورج قيصر في ملكوت الحب

| إسماعيل مروة

رجل من طراز فريد هو جورج قيصر، مذ التقيته قبل أكثر من عشرين عاماً كان هادئاً مفكراً مستمعاً، لعينيه بريق آخر وأخّاذ، ولهدوئه هيمنة كبيرة على الآخر، بهدوئه يستبيك ويأخذ إعجابك، ويقنعك، قلّما يرفع صوته، كان سريع الغضب عندما تتحدث معه بالثوابت من غير احترام، حتى لو لم تكن ثوابته، ولكن علامات الغضب تظهر دون إشارات أو صوت أو ما شابه.
مذ التقيته رأيت الإعلامي الذي لا يترك حرفاً، ويناقش في كل شيء ويعطي هوامش كبرى للصحفي ورأيه وما يريد قوله، وغالباً ما يناقش في الرأي، فإن وجد مسوغاته ينشره، يتبناه، يدافع عنه.
هو صاحب سيرة وظيفية إعلامية ومهنية طويلة ونادرة، وهو صنف مختلف من الإعلاميين، لم يبنِ خبرته على الكتابة والرأي بقدر ما بناها على الإدارة والتخطيط الإعلامي، وهناك مشروعات إعلامية كثيرة كان الأستاذ جورج وراء ظهورها والتخطيط لها، وكانت ناجحة، وكان سعيداً لنجاحها، وإن كان الآخرون هم الذين يبنون شهرتهم فيها، وتلك المشروعات كثيرة وعديدة..
أما المحطة الأكثر أهمية التي عرّفتني بجورج قيصر الأخ الأكبر، والأستاذ الدقيق، والمحب، فهي جريدة الوطن، ومن مرحلة التخطيط كان الأستاذ وضاح عبد ربه رئيس التحرير يجمع من تم اختيارهم، ويعقد لقاءات دائمة لتبادل الآراء، وكان الأستاذ جورج قيصر عموداً من أعمدة الوطن، يحادثنا، يحاورنا، يعطي توجيهاته لنا باحترام وودّ، ودون أن يمارس سلطوية، وكانت أنفاسه واضحة في صفحات السياسة والجريدة، ومقترحاته دوماً كان يطرحها للنقاش دون أن يفرض رأياً، ولكنه في الوقت نفسه كان عنيداً في تبني الرأي، وخاصة إن كان المطروح غير منطقي، ويسبب حساسية من نوع ما بين القارئ والكاتب.
وقبل الحرب على سورية كان يطيب لنا أن نبقى إلى ساعة متأخرة لنجلس مع الأستاذ جورج ونأخذ من خبرته، وهو يستعرض الأسماء ومواقعها، وأين كانت، وأين صارت؟ وكم من مرة أنصف شخصاً لمعرفته به، والفكرة المعروفة عنه غير ما يقول الأستاذ جورج وهو القريب منه..
وأذكر للأستاذ جورج أمرين أحببتهما: الأول تبنيه للشباب الذين يجد فيهم بارقة أمل، وكم من مرة اتصل بتواضعه، وهو الذي بإمكانه من مكانته ودالته أن يطلب، لكنه كان يتصل، ويقترح اسماً ما من الأسماء، لأنه يعرفه، ويعرف قدرته، ويراه مهماً في المستقبل، وللحق فقد أخذت باقتراحاته دوماً، وكان رأيه صائباً، وبعض هؤلاء اليوم في مكانة إعلامية عالية، ما يدل على حدسه وخبرته وقدرته الفائقة على تحديد مواطن التفوق والجمال.
والأمر الثاني كان تعلقه بمدينته اللاذقية، والحي الذي نشأ فيه وبنى علاقاته وصداقاته، فكان دائم الحديث عن الصليبة، ومن فيه من أصحاب وأهل تتنوع مشاربهم وشرائعهم ومذاهبهم وطوائفهم.
سنوات قضيناها برفقة الأستاذ جورج قيصر كانت ماتعة، ومليئة بالعلم والتجربة والحياة والحب، وزع الحب على الجميع، وقطّع قالب الحلوى في مناسبات الجميع، لم يتخلف عن أحد بحجة العمر أو المكانة، بل كان من أوائل المتصلين أو المهنئين أو المعزين أو المواسين، لأنه بكل اختصار كان إنساناً حقيقياً، وكم كان ألمه شديداً وهو يودعنا ويفارقنا، ليلتحق بركب أسرته وأولاده وراء المحيط، وبين مدة وأخرى تأتي كلمة من الأستاذ جورج لتقول لواحدنا: أنا معكم كما لو لم أغادر.
اليوم غادر الأستاذ جورج قيصر دنيانا ليسكن في الملكوت أبداً بعد رحلة طويلة من العناء والعمل، من الخبرة والحب، ويبقى أثره أبداً يسكن قلوب أحبابه الذين التقوه وأحبوه.. وقد يكون من القلة التي لم تختلف مع الآخرين حدّ الخصام، لأن جورج قيصر علمنا أن نحترم الآخر ورأيه.. وكان مثالاً حياً أمامنا..
وداعاً أيها الصديق والأستاذ، وما زرعته من حب كان ماثلاً، وسيبقى ما بقي عارفوك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن