صَحَت دمشقُ على إيقاعِ صاعقةٍ..
عبارةٌ كنا نظنها قد طوُيت، وأن متنبي عصره محمد مهدي الجواهري استعارَ هذه الكلمات ليرصفَ بها طريقَ التعبير عن فاجعةٍ عمرها عقود، لنكتشف بالأمس بأن العبارةَ تصلح لكلِّ جرحٍ وكلَّ آهٍ أطلقها مكلوم، ما خطبُ دمشقَ وقد اعترتها الفواجع؟!
أربعة عشر قمراً ارتقوا، أبى الحزن إلا أن يلفَّ دمشق وكأنَّ هذا الوطن مكتوبٌ عليهِ أن يضيعَ بين باحثٍ عن الحور العين في إرثٍ ديني ساقط، وباحثٍ عن مجدٍ مزوَّر بادعاءِ وطنيةٍ ساقطة لنصلَ إلى نتيجة بسيطة:
ما كان لأصحابِ اللحى العفنة أن يتمددوا لولا وجود من يبرِّرَ لهم والنتيجة ماثلة أمامنا: صباح دمشق كان قرمزياً وقد تلَّون بدماء الأبرياء.
نظرتُ في تفاصيلِ الحافلة بعدَ أن نالَ منها من قد يكون اجتهدَ فأخطأ فلهُ أجر! حاولتُ أن أمسح من أمامي لونها الرمادي والأسود، خلتها بلون الوطن الذي سينتصر مهما طال الزمن. عدتُ في ذاكرتي حيث كانَ الزمن يملأ تلكَ الحافلات بالروح والبساطة، لم يمنعني هول الجريمة أن أُعيدَ ترتيبَ الجرحى والشهداء كلٌّ في مكانهِ قبل أن يرتقوا. صدقوني سمعتُ أصوات ضحكاتهم المغموسة بتعبِ الانتماء لهذا الوطن، حتى أحاديثهم التي كانوا يتكلمون بها فككت رموزها، بانَت لي كما اللغز الذي كان يظهر لنا عندما نلوَّنهُ بقلمِ الرصاص، لون اللغز كان بلون الحافلة لكن لون أسرارهم كان مختلفاً، جاهلٌ ذاكَ الذي لا يعرف كيف يُدير البسطاء أحاديثهم.
تخالهم يتساءلون: تُرى هل من زيادةِ راتبٍ قادمة؟ أحدهم ربما كان يفكر بأن يطلب من زميله أن يكفله ليتمكن من إتمام معاملة قرضٍ بنكي باتَ بالنسبةِ له ملاذاً للهروب من الضائقة التي يعانيها. يا إلهي ذاكَ المتعب يضرب أخماساً بأسداس وهو يفكر:
هل سيوافق جاره على أن يعمل معهُ كسائق تاكسي في دوامٍ ليلي؟!
إحداهنَّ كانت تفكر بوالدتها التي بقيت وحيدة في القرية لأن أخواتها إما استشهدوا أو ما زالوا يحملون لواءَ الدفاع عن الوطن، أما هيَ فلا يمكن لها أن تترك عملها وتبقى إلى جانبها.
هناك من كان يفكر كيف له أن يؤمن لابنه المبلغ المطلوب لدروس التقوية في مادةِ الفيزياء؟ ما أجملها فيزياء البسطاء هي لا تحتاج لقوانين الطاقة الحركية حتى تثبت لنا بأن هناكَ عملاً لازماً لتسريع كتلة جسم معينة من وضع السكون، لأن البسطاءَ في بلدي خرجوا عن تلك القوانين عندما أبقتهم كل الحركة.. في السكون، وبين السكون والحركة يكمن الخلود.
عندما نمعن التدقيق في تلك التفاصيل التي تبدو صغيرة وهامشية سنتساءل ببساطة: ويحكَ أيها الإرهاب على من تغلبت؟!
إياكَ أن تفكر بأنكَ هزمتهم، مثل تلك الأرواح لا تنهزم، هم أشبه بالكواكب التي حملت الوطن على عرشِ الخلود وخروا لهُ سجّداً، إياك أن تظن بأنك ستهزم يوماً ساجداً في قلبهِ لا بجسده، وبين القلب والجسد برزخٌ لا يعلمُ تأويله إلا من «زدناهم هدى»، حتى نصل إلى اللحظة التي نقول بها: أجمل الأوطان ذاك الذي تعمَّد بدماءِ من نحب.
لتلك الأرواح السابحة في ملكوت العليين مع الأبرار والصديقين كل الرحمة ولأهلهم الصبر والسلوان وللجرحى كل الأمنيات بالشفاء.