ثقافة وفن

توثيق العمارة والعمران في حلب … أهمية النسيج العمراني الصامد في وجه تحديات الغزو

| سوسن صيداوي

عرفت بلاد الشام منذ عشرة آلاف سنة مضت مستوطنات سكنها الإنسان القديم، كما عرفت منذ خمسة آلاف سنة ق. م حضارات ومراكز حضارية مميزة، وشكّلت مدينتا دمشق وحلب كمستوطنتين منذ الألف الرابعة ق. م استثناءً باستمرارهما في الوجود، رغم ما أحاق بهما من كوارث وغزوات ودمار، واستطاعتا أن تنهضا على الدوام وتستعيدا مكانتهما من جديد كمركزين حضاريين.

وفي محاولة لاستكشاف مدينة حلب معمارياً، قدم لنا د. لطفي فؤاد لطفي كتاباً حمل عنوان (لمحة تاريخية عن العمارة والعمران في حلب)، متضمناً خمسة فصول: الأول منها يحكي عن نشوء مدينة حلب وتطورها العمراني، على حين تفرد الفصل الثاني بالحديث عن نظام تخطيط المدينة العمراني، كما توسع الفصل الثالث بالشرح وتعداد أهم وأقدم الخانات الحلبية، على حين جاء الفصل الرابع مسلطاً الضوء على الأبنية الدينية من مدارس وزوايا وتكايا وكنائس تاريخية، وكذلك خُتم الكتاب بالفصل الخامس الذي تحدث عن قلعة حلب.

وعن أهمية مدينة حلب اقتصادياً وعمرانياً وتاريخياً نتوقف بالمزيد من النقاط في هذه الإضاءة حول الكتاب.

النسيج العمراني للمدينة

اتسعت المدينة خارج السور، وبدأ النسيج العمراني لأحياء المدينة القديمة يتعرض للتغيير بسبب إغراءات تجار البناء، وبسبب شق شوارع رئيسة عريضة، فتهدم عدد كبير من الدور القديمة لتحل محلها الأبنية الطابقية، واختفت أقسام كبيرة من أحياء وحتى أحياء بكاملها: البندرة، بحسيتا، المصابن، الفرافرة، باب النيرب، القِلة. وأخذت ترتفع مكانها أبنية ذات ارتفاعات عالية، ما أدى بحسب وصف د. لطفي إلى إزالة أروع نسيج عمراني تراثي. كما هدم السور بملاصقة شارع عبد المنعم رياض، والقنطرة ذات الأسدين والركنين، وظهرت بعض الأحياء كتجمعات صناعية في الكلاسة وعين التل والعرقوب، وأخذت تنحسر بعض المهمات التي كانت تغلب على بعض الأحياء.

حلب القديمة وأبوابها

مما سُلط عليه الضوء في الكتاب تحدث المؤلف عن حلب المدينة القديمة، وكيف توسعت كمدينة بدءاً من القرن الرابع عشر الميلادي، باتجاه الشمال والشرق ولاسيما الشمال الغربي، كي تؤلف الأحياء الجديدة التي سكنها المسلمون في الشمال الشرقي والشرق، والمسيحيون في الغرب والشمال الغربي، فضلا عن سكناهم في حي الجلوم.

متابعاً د. لطفي: كيف تشكل المدينة القديمة ضمن السور بين أبواب: الجنان، أنطاكية، قنسرين، وأطراف جادة الخندق مربعاً شبه منتظم يبلغ طول ضلعه 1500م، شكَّل في العمران على مر السنين إطاراً للأجيال المعاصرة؟

وعن الأبواب الخمسة الموجودة الآن تابع بأنها تعود إلى الفترة المملوكية، أربعة منها تشكل نموذجاً واحداً، وإن اختلفت في الضخامة والفخامة: باب أنطاكية، باب النصر، باب الحديد، باب قنسرين. لقد كانت الأبواب ببرجين، ومن هناك وبداخل البرج ينعطف الطريق إلى داخل المدينة.

قلعة حلب

يرتفع سطح القلعة عن مستوى المدينة 38م، لها شكل بيضوي، ويحيطها خندق عمقه 22م كان يملأ بالماء للتحصين، كُسيت منحدرات القلعة ذات الميل الكبير بأحجار منحوتة، وخارج القلعة مزين بزخرفات هندسية وكتابات متنوعة، ويؤكد الباحث (هرتسفيلد) وجود 44 كتابة منها 28 على أسوار وجدران وأبراج القلعة الخارجية و18 داخل القلعة وأبنيتها وأقدمها تعود إلى عام 1072 م.

في القُدرة الاقتصادية

حتى في الجانب الاقتصادي تطرق إليه د. لطفي في بحثه هذا، والأمر طبيعي فلا يمكن أن نذكر الجانب العمراني ولا نتحدث عن الجانب الاقتصادي لمدينة حلب، إذ يقول: «أبنية حلب التي أنجزتها الأجيال السابقة ضمن وسط حياتيّ صاغه الإنسان لنفسه بنفسه، وأنجز حضارة لا تقدر بثمن في إطارها الإنساني وهي التي شكلت حلب، وجعلتها في فترات الازدهار الاقتصادي مركز تحكم في التجارة العالمية». متابعاً: كيف تأثرت تقلّبات قيمة العملة الذهبية – وحالياً العملة السورية- في اقتصاد المدينة، مشيراً إلى مقدرة الإنسان الحلبي في الاستكشاف حول أصقاع العالم باحثاً عن الإمكانات الأنسب لشراء الأصبغة والحرير والأقمشة الصوفية…. إلخ.

وكيف سعوا إلى الانخراط في التجارة المحلية والعالمية بكل دأب، وماذا حصل مع الدول القوية كالدولة الفرنسية، في عجزها عن تسديد الاستحقاقات المترتبة عليها لتجار حلب في عام 1860، وبفضل هذه القدرة الاقتصادية للأخيرة تمكنت من النهوض مراراً بعد نكسات ومصائب ألمت بها من حروب وعزوات لتزدهر على الدوام. ليقول د. لطفي: «لديّ الثقة بأن حلب ستنهض ثانية بعد هذا الغزو المغولي الجديد، كما نهضت بعد غزوتي 1260 بقيادة هولاكو و1400 بقيادة تيمورلنك».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن