ثقافة وفن

«مراسم الوداع» سارتر ودي بوفوار … المسيرات المؤيدة لحرب الجزائر كانت تنادي «الموت لسارتر» لأنني حاضرت ضد الحرب

| إسماعيل مروة

«لم يكفّ سارتر، طيلة حياته عن مراجعة نفسه، من دون أن يتنكر لما كان يسميه اهتماماته الإيديولوجية، لم يكن يريد أن يصبح متغرّباً، ولهذا، غالباً ما اختار أن يفكر ضد نفسه، باذلاً جهداً صعباً لتحطيم عظام في رأسه».

كذلك تبدأ الكاتبة والصديقة والحبيبة سيمون دي بوفوار كتابها المثير للحب والأهمية (مراسم الوداع وحوارات مع جان بول سارتر) الفيلسوف والإنسان الذي قضت بملاصقته وحبه خمسين عاماً، لتخلد هذا الفيلسوف الكبير والأديب المختلف بكل شيء، ولعل أهم ما في هذا الكتاب الذي قام على ترجمته الأستاذ الدكتور قاسم المقداد، ونشر أول مرة باللغة العربية بالتعاون بين دار التكوين ودار أوغاريت في سورية، أهم ما فيه هو رصد السنوات العشر الأخيرة من حياة سارتر بين عامي 1970 و1980، إضافة إلى حوارات دخلت عمق فكر سارتر وروحه أقدمت عليها أديبة كبيرة لم يمنعها أناها من أن تقول كلمة صحيحة في المفكر والحبيب على نصف قرن حتى جمع رماده حسب وصيته بألا يُدفن بين أمه وزوجها، بل أراد أن تحرق جثته ويجمع رماده.. وقد لا يكون مصادفة أن تعجز الحبيبة عن شهود الترميد لمرضها، وأن تنظر الرماد بعد أن ودّعت وجه سارتر.

الكتاب والضرورة

كثير من المثقفين العرب، وربما الغالبية لم يقرؤوا ميراث سارتر الفلسفي والأدبي والفكري، وكل من يقوم بنقده وشتمه يقوم بذلك لأنه وجودي ملحد! وهو لا يعرف شيئاً عن الوجودية، ولا عن آراء سارتر، ولم يقرأ كلام سارتر في الوجودية والإلحاد! وربما دافع من دافع عن سارتر بسبب موقفه من حرب الجزائر والاحتلال الفرنسي، وهاجم من هاجم بسبب موقفه من القضية الفلسطينية، وربما من موقفه الحاد من الرأسمالية والشيوعية على حد سواء، فهو كان وفي صميم آرائه معادياً للاستغلال الإنساني ولكنه لم يكن على وفاق مع توجهات الأحزاب الشيوعية التي وقفت ضده حتى عند دفاعه عن العمال والطبقة الكادحة وفي المعامل! إذ حالت الأحزاب الشيوعية دون لقائه مع العمال بشكل مباشر، ما اضطره أن يلقي مرافعته عليهم عن بعد!

سارتر لم يكن سياسياً وحسب، ولم يكن وجودياً فقط، ولم يؤسس لفلسفة إلحادية خاصة به تختلف اختلافاً جذرياً عن الشيوعية والماركسية، بل كان أديباً مثّل ذلك خير تمثيل في كتبه ودراساته ومسرحياته وقصصه، بل وفي حياته، ومن هنا تأتي ضرورة وجود هذا الكتاب في الفرنسية، وفي اللغات الأخرى ومنها العربية، فمن الصفحة الأولى تنحي سيمون الجانب السياسي والتنظيري جانباً لتدخل في صميم الأدب والفن، متسلحة بأن ذلك الجانب السياسي أشبع من الكتاب حوله، ومن الصحفيين الذين حاوروه «أفضت من الحديث عن السياسة مع غيراسي، وآخرين، دعنا إذاً نتكلم عن الجانب الأدبي والفلسفي في عملك».

وهذا الكتاب الضرورة تسجيلياً للسنوات التي سجلت فيها سيمون مراسم الوداع، ولآراء سارتر الدقيقة في حوارات عميقة معه يشكل فاصلة في حياة سارتر وسيرته التي سجلتها سيمون وصادق عليها.

الإنسان والاشتراكية

في عدد من الدراسات العربية التي قرأتها عن سارتر يحاول الكثيرون حصره في الشيوعية والاشتراكية المثال الذي جاء مع الثورة البلشفية عام 1917، لكن سارتر بوعي الفيلسوف والمثقف والباحث عن الإنسان وحقيقته، يفصل بين ما هو فكري وحياتي وسياسي، ومفكرة من وزن سيمون عاشت معه خمسين عاماً تضع رأي سارتر الذي يظهر السبب الحقيقي وراء شمولية الآراء الشيوعية، وفردانية الإنسان التي يبحث عنها سارتر، كان سارتر ينادي بتطبيق اشتراكية أخرى ملموسة، تفكك المركزية في مقابل تلك الاشتراكية الممركزة والمجردة، وهو ما تنادي به إيتا تحديداً لمواجهة المركزية المجردة التي يمارسها القامعون. وكان يقول: ينبغي خلق الإنسان الاشتراكي على أساس أرضه، ولسانه، وحتى أخلاقه المتجددة، ومن هنا فقط سيكف الإنسان تدريجياً، عن أن يكون منتوج منتوجه، ليصبح أخيراً ابن الإنسان».

وسارتر لأنه كان مفكراً أو عميقاً وحراً يضع يده على الأمور ويفصّل، فهو ليس خصماً للاشتراكية لمجرد الخصومة، وإنما لأنها تعمل بمركزية وتجريد يحرم الإنسان إنسانيته، ويجعله تحت سطوة القامعين، وعندما يخضع الإنسان لهذه الاشتراكية المركزية القمعية برأيه يصبح منتوج فكر أنتجه هو، ويضع الأسس التي يمكن أن تخلق نظرية جديدة، وإنساناً جديداً يكون ابن الإنسان وليس ابناً لفكر أنتجه هو!

ورحلة سارتر الفكرية ترصدها سيمون في سنوات مراسم الوداع بشكل دقيق حتى نهايته التي سجلتها بحب لا مثيل له، ويترك المجال لتعبيره وأقواله في أحاديثه، لكن الصورة النادرة سجلتها سيمون ص 178، وهي لحظة وفاة سارتر في المشفى، وكان يريد أن يعود إلى الفندق.

حرصت الممرضات على إسدال الستائر.. طلبت أن أترك وحيدة مع سارتر لوقت قصير، أردت أن أتمدد بجانبه تحت الغطاء، فأوقفتني إحدى الممرضات، لا، انتبهي الغنغرينا، عندها فهمت سبب تقيحاته، استلقيت فوق الغطاء، ونمت قليلاً، وفي الساعة الخامسة جاء بعض الممضرين، ربطوا جسم سارتر بغطاء، وما يشبه الكيس وأخذوه، هذا المشهد على قصره ووجازته يعطينا صورة عن سارتر ومرضه، وسيمون وحقيقة الوفاء الذي حملته لسارتر حتى بعد موته بل مع ما قبلها تعطينا فكرة عن المثقف الحقيقي الذي لا يملك بيتاً، وأمضى عمره في الفنادق والغرف وبيوت الأصدقاء والصديقات وسيمون بشكل خاص.

والكتاب وآراء سارتر لا يمكن القيام بالتلخيص والاجتزاء منها دوماً، فهو الذي قدم رؤية دقيقة للمثقف وعلاقته بمجتمعه وشريحته، والطبقة العمالية تحديداً، وتحدث عن فقدان الثقة بين المثقف والطبقات الاجتماعية التي يمثلها، وعذر الذين لا يثقون بالمثقفين، رغم محاولاته العديدة أن يجري تصالحاً ما، بين المثقف وناسه وآرائه! ولكن هذه المعضلة استمرت وما تزال مستمرة، والسبب كما يراه سارتر على الحق يتمثل في نرجسية المثقف، ووهمه ودوره، ويمكن أن نعود إلى الكتاب لنجد التفاصيل الدقيقة.

سارتر والموقف من العنف

تسأل سيمون عن العنف، وسارتر بعمقه يفصّل في العنف تفصيلاً دقيقاً، يفضي به إلى شتى أنواع العنف، حتى ذاك الذي لا يراه الناس عنفاً، وكيف لهذا العنف أن يكون مرتهناً في حياة المرء منذ الطفولة، وحين نقرأ جواب سارتر نعرف معنى أن يكون الإنسان مفكراً وفيلسوفاً وصاحب رأي ونظرية والعنف كان واقعاً يومياً، عنف الحرب، ثم العنف الصغير، الذي يمارسه أولئك الأطفال المحرومون من آبائهم، كنت أصادف العنف من قريب أو من بعيد ولاسيما أنني كنت موضوعه، في أغلب الأحيان الموضوع الذي أقصده هنا، ذلك القائم في الثانوية، بمعنى تعرض المرء للضرب.

لم يكن ذلك يبدو لهم ضمن إطار اللعب، كما لم يكن يبدو كذلك بالنسبة لي، كنت أشعر أن نوعاً من سوء الحظ يثقل عليّ، فتعاظمت تعاستي وصرت مادة للمزاح والضربات في أغلب الأحيان، فأحسست بدونيتي.. أظن أن العنف الذي تعلمته، لم يفارق ذهني أبداً، ومن هذا المنظار صرت أنظر إلى العلاقات بين الناس، ولم تصبح علاقاتي مع أصدقائي ناعمة لاحقاً، إذ بقيت أفكار العنف تحكم علاقاتهم ببعضهم.

تحدث سارتر عن العنف الذي تعرّض له ورآه، لأن هذا العنف الذي استمر طويلاً ترسخ في الذاكرة ليصبح سلوكاً، وتستمر الظواهر العنفية التي أطلق عليها لفظ غير ناعمة حتى مراحل متقدمة، وفي هذا تحليل لظاهرة العنف الكلية التي تبدأ من الطفولة، من الحرمان للأبوين، أو للآباء فقط، من مدارس يفترض أن تكون رحيمة، فإذا بها تصبح عنيفة للغاية.. ولعل أطرف ما أشار إليه سارتر ويتسم بالغرابة والعمق، غرابة الفعل وعمق التحليل، وهو ذلك العنف المرتبط بالحب والصداقة والحرص والتربية، وبذلك يفهم سارتر أن يضربك خصمك، أما أن يضربك من يحبك فذاك أمر آخر «فهم لا يضربونك بوصفك عدواً، بل كرفيق، لمنعك من الوقوع في الخطأ، أو لمصالحتك مع أحدهم.. يضربونك باسم الصداقة..»!

سارتر والمرأة والجسد

سارتر واضح في تفعيل ملاقاته بالنساء من سن السابعة، ويقدم في إجابة تفسيرات كثيرة لما يمكن أن يدور في بالنا لقراءة فلسفة المرأة والرجل، بل وقد كان واضحاً للغاية في الحديث عن نظرته ونظرة المجتمع الفرنسي للفتاة التي تعيش علاقة كاملة الحرية، إذ يراها المجتمع الفرنسي البورجوازي رخيصة، وفي المجتمع الراقي لا تتعدى العلاقات البريئة، ولكن سرعان ما تغيرت نظرته على حد قوله.

ولكن الأكثر جمالاً أن سارتر يتحدث لمحاور، وهذا المحاور سيمون التي تعرف عشيقاته وتعرفه، وتسأله عنهن، وتقول له وأنا واحدة منهن، خاصة بعد أن كانت إجاباته بأن أغلب علاقاته مع النساء كانت تقوم لمرة واحدة لا يلتقيها بعدها، وعن سيمون قال لها تعبير.. «لقد توفرت فيك كل الصفات التي كان بوسعي طلبها من النساء، الصفات الأكثر جدية، وبالتالي، فهذا يحرر النساء الطيبات الأخريات اللاتي يمكن أن يكنّ مجرد جميلات، على سبيل المثال، ما حصل، هو أنك تمثلين أكثر مما أعطيه لبعض النساء».

وتجيبه سيمون بوضوح «أي شيء؟ جوابك غريب، يبدو أنه ما إن تواجد امرأة في طريقك، تكون عندئذ مستعداً لتشبك قصة معها»!

فإلى أي حد كانت علاقة سيمون دي بوفوار بجان بول سارتر حتى تدرك كل هذا في طبعه وحياته، وتبقى على حبه خمسين عاماً، وتستلقي إلى جانبه على سرير المرض بعد موته غير عابئة بالغنغرينا التي فتقت جسده؟!

أما الجسد فمشكلة عند سارتر تصل إليها سيمون، وهو يقولها بوضوح، وقد ركز في موضوع العنف على شكله وغرابته وبشاعته وإثارته للضحك، ومع المرأة تحدث أكثر من مرة عن قطعية البشاعة وحجم الجسم، وعندما سألته فيما كان مع فتاة طويلة أكثر منه فقال: «كان الأمر يضايقني قليلاً، كنت أظن أن الآخرين يرونني مضحكاً وعشيقاً لفتاة طويلة جداً، أو لفتاة أطول مني، لكني كنت أحب هذا من الناحية الشهوانية».

وحين تسأله سيمون عن بشاعته يجيب بوضوح:

«اكتشفت البشاعة من خلال النساء كان يقال لي بأنني بشع منذ أن كنت في العاشرة من عمري.. أرى نفسي في المرآة أشبه بمستنقع، حيث أرى سمات لا معنى لها، ولا تتلاءم مع وجه بشري واضح جزئياً، بسبب عيني الحولاء جزئياً، والتجاعيد التي سرعان ما غزت وجهي، جملة القول: إن وجهي كان أشبه بمنظر تراه من الطائرة، حيث لا معنى للأرض سوى كونها حقولاً تتوارى من وقت لآخر».

هذا الوضوح قلما نجده من أديب، ولكن لو أمعنا النظر في هذا الوضوح أدركنا لماذا كان سارتر عظيماً ومفكراً، بينما لم نجد أمثاله عندنا في عالمنا العربي، وقد عاشوا الحقبة نفسها، وأنجزوا كتباً أكثر منه! ببساطة لأنه كان واضحاً ويعرف ما يريد، ويتحدث بوضوح عما عاشه، وعندما تسأله سيمون عن الأدوية النفسية والمنشطات والمخدرات يقول: «نعم أفرطت في تناولها طيلة عشرين عاماً».

والغريب كنت أرفضها حينما أكون بصدد كتابة الأدب، وألجأ إليها عند كتابة الفلسفة، لهذا ترين أن كتاب نقد العقل الجدلي ليس تحفة من حيث الإنشاء والوضوح.

سارتر وحرب الجزائر

في مواضع كثيرة من إجاباته يحدد سارتر مفهومه للإنسان، ويؤكد ضرورة فهم الإنسان لذاته، ففي مقدور كل إنسان أن يكون عبقرياً، أو على الأقل أن يكون إنساناً، وربما كان هذا وراء انخراطه في الحملة ضد الحرب في الجزائر، مع أن الحكومة كانت تريد الحرب، وغلابية الناس يريدون الحرب، لكن الإنسان الذي كان هو سارتر لم يرد الحرب، بل حاربها وقاومها وحاضر ضدها، ويذكر ذلك وما جرّه عليه من عداء من الحكومة والناس، خاصة في المظاهرات التي قامت تؤيد الحرب في الجزائر وتهتف ضد سارتر الذي حاضر علناً ضد الحرب.

«يوم كنت في البرازيل التقيت ممثل الجزائر بناء على طلبه وتبادلنا الرأي حول الدعاية لصالح الجزائريين، وكانت آراؤنا متفقة تماماً، ألقيت في ساوبالو محاضرة تناولت الحرب.. وتحول الحضور إلى تظاهرة لصالح الجزائريين، كنت أشعر بنفسي حراً.. أردت وصف الحقائق الراهنة والدقيقة التي كانت تعرض الحرية للخطر.. وكنت حراً فلم أنضم أبداً إلى تنظيم مؤثر للجزائريين، ولكنني كنت متعاطفاً مع كل التنظيمات وموضع ترحيب لديها جميعاً.. حريتي لم أكن مشروطاً بأحد..».

أخيراً

سارتر كان كاتباً حراً، أديباً بارعاً، قاصاً مهماً، مسرحياً من الطراز الرفيع، وكان صاحب رأي حر، ومن هنا كانت مواقفه السياسية التي خلقت تمايزاً كبيراً بينه وبين الشيوعيين والبورجوازيين، واستطاعت أن تؤسس للوجودية التي لم ينفِ عنها سارتر صفة الإلحاد، لكنه في الوقت نفسه كان على صلة بالمؤمنين.. تصالح مع ذاته وبشاعته وأمراضه وحياته فاستحق مراسم الوداع من أديبة مرموقة أعطته خمسين عاماً وهي على علم بكل تناقضاته، وشريكة له في كل فاصلة من حياته الفكرية والشخصية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن