بين الواقع والمتاجرة وأضغاث الأحلام: ماذا يعني مصطلح «خروج الأميركي من المنطقة»؟
| فراس عزيز ديب
خبَت الأحداث في المنطقةِ والعالم، وكأن الجميع يُعطي كل الفرص للدبلوماسية التي تبدو طاغية حتى الآن في حلحلةٍ قادمة، لكن هذا التفاؤل لا يمنع فكرةَ وجود نارٍ تحت الرماد بانتظار من يقوم بالنفخ فيها حتى تشتعل، ولعل من سيقوم بذلكَ هو من سيكون الخاسر الأكبر، وبانتظار أي وجهتي النظر سوف تنتصر لابد لنا من العودة لفكرة إعادة ترتيب المصطلحات ليس بسياق الأهمية فحسب لكن بسياق إعادة التحليل لكون الكثير من مصطلحاتنا يعتريها الخَلط، ولعل أحد أهمها هو مصطلح: «إخراج الأميركي من المنطقة»!
مبدئياً يبدو هذا المصطلح يتكرر كثيراً في الكتابات والتحليلات لكنها بمعظمها تتبنى الحماسة أكثر من الواقعية، تتبنى أسلوب «الدوكما» في تفكيكِ آليات الصراع على هذه المنطقة، ليبدو معها الخروج الأميركي هو الحل الوحيد لكل مشاكلها، فيعتريها الاختزال والابتعاد عن الموضوعية، على هذا الأساس يبدو من المفيد إعادة تشذيب هذا المصطلح انطلاقاً من الواقع والوقائع لا الأحلام والأمنيات وعليه لابد من الإجابة عن التساؤلات التالية:
أولاً: عن أي أميركي نتحدث؟
دائماً ما تبدو فكرة أن مشكلتنا ليست مع الأميركيين بل مع سياسات بلدهم أشبهَ بحقل ألغام لا تعرف متى سينفجر بك، لأن هناك من سيجيبك ببساطة بأن الأميركيين هم صورة عن حكامهم وهم من جاءَ بهم إلى السلطة.
هذا الكلام ربما يبدو فيهِ الكثير من التجني فالمواطن الأميركي لم يقل إنه يبحث عن الحروب، عدد المظاهرات التي خرجت في الشوارع الأميركية ضد الحرب على العراق يفوق بكثير عددها التي خرجت في كل الدول العربية مجتمعة، أكثر من ذلك جميعنا يتساءل كيف وصل دونالد ترامب إلى السلطة وكيف أقنعَ الناخبين؟ ونتجاهل أن أحد أهم الأسباب كانت وعود ترامب لناخبيه بإنهاء زمن الحروب وإعادة القوات الأميركية من الخارج، وهو فعلياً كان جاداً في ذلك لكن ما جرى أظهرَ أن من يحكم الولايات المتحدة هي المؤسسة العسكرية وليس الرئيس، هذا يعني أن الشعب الأميركي قام بما عليه لكي لا يبدو داعماً للحروب لكنه لا يتحمل مسؤولية خذلان حاكميهِ لوعودهم.
الفكرة إذاً أن التمييز بين الشعب الأميركي وقيادته أمر واجب، فالمجتمع الأميركي كما غيره من المجتمعات فيه الجيد والقبيح لكن النظر لكل ما هو أميركي من «ليبراليته» حتى «أفلام الأكشن» على أنه شر بالمطلق هو نوع من النرجسية التي تظهرنا وكأننا نعيش في المدينة الفاضلة.
ثانياً عن أي منطقةٍ نتحدث؟
حتى الآن لا يبدو أن هناك تحديداً معيناً للمنطقة التي يجب أن يخرج منها الأميركي حسبما يقول هذا الشعار، القضية هنا ليست بإطلاق الشعارات، لأنها في النهاية تظهر عندَ جمهورها كهدفٍ يبدو عدم إنجازه شبهَ خيبةٍ يخفي انتصارات أهم بكثير من مصارعة طواحين الهواء. واقعياً يمكننا التمييز بين ثلاثة مفاهيم للوجود الأميركي في المنطقة:
المفهوم الأول للوجود الأميركي وهو المتعلق بالثقافة الأميركية، لن نسهب كثيراً في التعاطي مع هذا الوجود لأنه نوع من الحرية الشخصية، هناك من هو معجب بكل ما هو أميركي لا يمكنك ببساطة النظر إليه نظرةَ ازدراء ما دام منفصلاً عن السياسة والعسكرة.
المفهوم الثاني وهو الوجود العسكري في دولٍ من دون موافقتها وهو وجود له توصيف واحد؛ احتلال. هذا الوجود وعلى أي أرضٍ كانت يجب محاربته ومقاومته حتى دحره، والعمل بكلِّ السبل المتاحة التي كفلَتها الأعراف والشرائع الدولية لضمان هذا الخروج، بل النظر لأي دفاع عن هذا الوجود كنوع من الخيانة لاستقلالية الدول وسيادتها.
المفهوم الثالث وهو وجود عسكري هو بالنهاية انعكاس لاتفاقات مدنية وقعتها الولايات المتحدة مع دول المنطقة، هذه الاتفاقيات تتيح للولايات المتحدة استخدام أراضي هذه الدول لبناء قواعد عسكرية أو استخدام مياهها الإقليمية، وهو ما يتجسد في الوجود العسكري الأميركي في دول الخليج العربية. هنا يبدأ الخلط لأن التدخل في هذا الوجود يبدو عملياً تدخلاً باستقلالية هذه الدول وخياراتها بمعزلٍ عن رأينا بهذا الوجود، لكننا ببساطة لا نمتلك حق التدخل بخيارات هذه الدول بالطريقة التي لا نريد لأحد التدخل في خياراتنا، هل يجب علي أنا المواطن العربي السوري أن أخوضَ معركة وهمية لإخراج الأميركي من دولة ذات سيادة كالمملكة العربية السعودية مثلاً؟ هناك فرق كبير بين أن نتفق أو نختلف مع آلية حكم دولة ما وبين أن نتجاوز صلاحياتنا الإنسانية والأخلاقية بالتدخل في شؤون الدول الأخرى.
ثالثاً: ما آليات الخروج حسبَ هذا الشعار؟
مبدئياً لنضع الحروب جانباً، لا أحد يريد الحرب حتى من يهوِّلَ لها، هذا الكلام طبعاً لا ينطبق على المناطق التي يحتلها الأميركي والتي يمكن العمل على تحريرها بكل الوسائل المتاحة. الحرب بمفهومها التقليدي لن تُخرج الأميركي من المنطقة على العكس فإن حالة التوتر المستمرة هي من يعطي الأميركي فرصاً أكبرَ للبقاء.
إن أردنا أن نفهم فعلياً آلية خروج الأميركي سلماً وجعلها هدفاً فعلينا أن نتذكَّرَ أن الهدف بحاجة إلى آليات وأدوات لتحقيقه هذا الهدف لا يتحقق بالصراخ، ولا بإطلاق الشعارات أو ببث الروح الحماسية، وبطريقة أوضح: لا تقل لي كيف ستُخرج الأميركي، قل لي لماذا وجد غيرنا في الأميركي طوق نجاةٍ أعطاه تحالفاً مفتوحاً لم يجده في مكانٍ آخر؟
هل هي غريزة البقاء عبر التظلل بالقوي؟ لا يمكن أن يكون ذلك لأن هناكَ دولاً لا تقل قوة عن الأميركي ولم يلجأ إليها، والوقت ذاته هناك دول تفوق دول منطقتنا بكثير من حيث القوة والتجأت للأميركي!
عندما نقول إننا سنُخرج الأميركي من المنطقة علينا أن نحدد مستقبل المنطقة ومن سيرثها، عندما نبني تحالفات قوية مبنية على الثقة وليس عبر خطابات الكراهية والحقد والنعرات الطائفية، علينا ببساطةٍ أن نبني الأرضية التي يطمئِن فيها كل طرف للآخر لدرجة يبدو فيها الوجود الأميركي تحصيل حاصل.
في الخلاصة: نبدو في هذه المنطقة ومنذ عقودٍ أسرى للكثير من المصطلحات والشعارات، يتجاوزنا الزمن ويتجاوزنا المستقبل ونحن مازلنا على تكرارٍ ببغائي لم نحاول أبداً أن نفصلهُ عن اللحظة الزمنية التي وُجدَ من أجلها، الكثير من الدول تعاطى بالطريقة ذاتها لكنه عند لحظة معينة وضع شعاراتها جانباً عندما كان هناك فرصة للالتقاء، لندقق مثلاً في الاتفاق النووي بين إيران والدول العظمى ألم يكن هذا الاتفاق وليدَ لحظةٍ وضع فيها الجميع شعاراتهم جانباً؛ لكن هذا لا يعني أن نجعل من الشعارات مادة حسب الحاجة وفق معادلة قميئة: تم الاتفاق فليبق الأميركي في المنطقة، سقط الاتفاق فليخرج الأميركي من المنطقة!
هذه المقاربة تنسحب على الكثير من المصطلحات والشعارات التي تبدو فعلياً بحاجة إلى إعادة تطويع على الأقل لجعلها أقرب للتنفيذ، تحديداً إننا اليوم بحاجة للتركيز في الشعارات على المستوى الداخلي بعيداً عن البعد الإقليمي، أعيدوا تطويعها قبل أن يسبقنا الزمن أكثر فأكثر، فشعوب المنطقة تستحق ما هو أفضل.