قضايا وآراء

الطائرة الروسية والانتخابات التركية وألعاب الغرب الإعلامية

القاهرة – فارس رياض الجيرودي :

يقع المحللون في فخ العبث عندما يحاولون تفسير النتيجة المفاجئة للانتخابات التركية الأخيرة بالاستناد إلى عوامل تركية داخلية، تتعلق بتحولات الرأي العام التركي تجاه القوى السياسية التركية المشاركة في الانتخابات، فقد أصدرت منظمة التعاون والأمن الأوروبية التي تملك أكبر جهاز مراقبة للانتخابات في العالم والذي راقب تلك الانتخابات تقريراً يدين ما وصفته بفضيحة الانتخابات الأخيرة في تركيا.
تحدث التقرير عن ممارسات التهديد والاعتقالات وإغلاق الصحف والمحطات التلفزيونية، وعن توجيه تهم لمرشحين لمنعهم من الترشح عبر استخدام لعبة قانونية للتحقيق تنتهي بالبراءة ولكن بعد نهاية الانتخابات، وصولا للتلاعب بأقلام الاقتراع، واعتبرت المنظمة أن النتيجة غير شرعية ودعت لمقاطعة نظام أردوغان على هذا الأساس وربط العقوبات بإعادة الانتخابات تحت مراقبة كاملة لمراقبين دوليين، لكن تقرير المنظمة سيبقى حبراً على ورق ما لم تتبنه ماكينة الإعلام الغربية، وما لم يعلق عليه المسؤولون في الغرب، ويحولوه إلى أزمة سياسية وحدث كبير يستدعي اتخاذ إجراءات وعقوبات تجاه السلطة الحاكمة في أنقرة باعتبارها نفذت اعتداء موصوفاً على قيم الديمقراطية، وهذا ما لا يبدو قريب التحقق، ما يعني عملياً أن سلطة أردوغان ما زال لها مكان ما وقيمة وتوظيف في الإستراتيجية الأميركية والغربية، حتى بعد سقوط أنظمة حكم الربيع العربي الاخوانية التي حاولت اقتباس تجربة حزب العدالة والتنمية في كل من تونس ومصر وليبيا، وحتى بعد إخفاق مشروع استثمار وتوظيف الإخوان المسلمين في بلوغ الغاية الأساسية منه، أي في إصابة محور المقاومة في مقتل عبر إسقاط قلبه سورية.
ففيما يتعلق ببلد كتركيا تحوي أرضه عشرات القواعد العسكرية الأميركية، وجزءاً من مخزون الصواريخ النووية الأميركية الإستراتيجي، ويرتبط جيشه عضويا بمنظمة الناتو، وأدى طوال تاريخه السياسي دوراً وظيفيا في خدمة الاستراتيجيات الغربية سواء المخصص منها لمواجهة الاتحاد السوفييتي في الماضي أو لمساعي تجديد الهيمنة الاستعمارية الغربية في العالم، يصبح تفسير سياقات السياسة وتحولاتها من دون أخذ الاحتياجات الإستراتيجية الأميركية بالاعتبار ضرباً من الاستهانة بالعقول، وهذا ما يؤكده التاريخ التركي المملوء بالانقلابات التي نفذها جيشه العضو في الناتو ضد حكومات امتلكت من المشروعية الشعبية أكثر بكثير مما تمتلكه حالياً حكومة العدالة والتنمية، بدءاً من حكومة عدنان مندريس الذي أطيح به بعد محاولته قطع العلاقات مع إسرائيل، وصولاً لحكومة نجم الدين أربكان الذي أطيح به بعد سعيه لإنشاء منظومة اقتصاد إقليمية تجمع بين دول المنطقة وتتجاوز الحدود القومية والمذهبية والسياسية التي ظل الغرب يسعى لتقسيم المنطقة على أساسها.
وبالمقارنة مع حدث آخر تزامن مع الإعلان عن نتائج انتخابات تركيا، وهو حدث سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء، يمكننا تلمس اتجاهات السياسة الأميركية في المنطقة، من خلال ملاحظة التباين في طريقة التعامل الإعلامي الغربي مع الحدثين، فالحدث المصري حولته ماكينة الإعلام الغربي إلى مناسبة لمعاقبة مصر ولاستهداف اقتصادها في مقتل ولتجفيف موارد السياحة في ذلك البلد، عبر استباق نتائج التحقيق الذي ارتضت روسيا نفسها الدولة المعنية بالحدث انتظار نتائجه وهي التي تشارك فيه أصلاً، حدث ذلك بدلاً من التعامل مع الواقعة كمناسبة يتم خلالها التعاطف مع مصر الطرف المعتدى عليه و- ذلك في حال ثبوت نظرية الاعتداء الإرهابي التي روج لها الإعلام الغربي والمسؤولون الغربيون- اتساقاً مع ما كانت الحال عليه في مناسبات اعتداءات سابقة تعرض لها عدد من المدن الغربية كواشنطن ونيويورك ومدريد ولندن، بالمقابل كان يكفي بالنسبة للغرب تحويل التجاوزات التي ارتكبتها حكومة أردوعان أثناء العملية الانتخابية وقبلها إلى خبر يحتل مقدمة نشرات الأخبار ويعلق عليه المسؤولون الغربيون في مؤتمراتهم الصحفية، حتى يعطوا الضوء الأخضر لـ (الجيش الثاني في الناتو من حيث الحجم) أي الجيش التركي للانقضاض على سلطة أردوغان وتصحيح المسار الديمقراطي، وهو أمر ما زال يكفله له نص الدستور التركي الحالي، الذي لم ينجح حزب العدالة والتنمية حتى اليوم في نيل أغلبية الثلثين البرلمانية اللازمة لتعديله.
لقد فقد الاستثمار الأميركي على حكومة العدالة والتنمية التركية هدفه الإستراتيجي الرئيسي والمتمثل في إسقاط سورية، وذلك بعد التحول التاريخي الكبير المتمثل بالدخول العسكري الروسي إلى سورية دعماً لدولتها وجيشها، وتبرهن نتائج مؤتمر فيينا الأخير على هذه الحقيقة، حيث صدقت الولايات المتحدة على تجاوز ونسيان مشروع تطييف الحكم في دمشق، وهو ماكان جوهر إستراتيجتها تجاه سورية والمنطقة، كما تم تبني نقاط للحل تمثل في جوهرها روح المبادرة التي طرحها الرئيس الأسد نفسه لحل الأزمة عام 2012، لكن للاستثمار على إسلاميي تركيا عوائد أخرى بالنسبة لأميركا، أحدها ضمان استمرار التوتر المذهبي في المنطقة، وليس آخرها ضمان استمرار إقلاق راحة كل من مصر والجزائر ومنع استقرارهما، عبر استمرار السند التركي للجماعات المسلحة الإرهابية في سيناء وليبيا، وهو أمر يستدعي من القائمين على القرار المصري اتخاذ إجراءات جريئة لمواجهته اتساقاً مع الخطوة التي اتخذوها عندما ساندوا التدخل الروسي في سورية ضد خطر الجماعات الإرهابية، والإجراءات الجريئة الناجعة هنا لا يمكن أن تكون عبر خيار العودة للتمترس خلف خطوط دفاعية، وهو خيار سيؤدي إلى مزيد من خسارة الدور والموقع، في حين يكون الدفاع الفعال عن المواقف بتحصينها بالمزيد من التنسيق مع الشركاء في مواجهة الخطر الإرهابي في المنطقة، فالاضطلاع بالأدوار القيادية الكبرى بالنسبة لبعض الدول ومنها مصر قدر لا مهرب منه تفرضه حقائق التاريخ والجغرافيا والحجم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن