الأولى

حريتنا مسؤوليتكم

| بقلم: أ. د. بثينة شعبان

قال الأسرى الذين يتخذون قرارات بالإضراب عن الطعام في سجون الاحتلال لهيئة الأسرى التي تفاوض العدو الصهيوني من أجل حريتهم: «حريتنا مسؤوليتكم». ولكن هذه العبارة ليست موجهة فقط لهيئة شؤون الأسرى ولكنها موجهة لكل عربي وعربية يؤمن بأن القضية الفلسطينية هي البوصلة وأن ما يتعرض له الأسرى الفلسطينيون والسوريون والعرب في سجون الاحتلال هو مسؤوليتنا جميعاً.
إذ ما الذي يميّز المدافعين عن القضية سوى أنهم يؤمنون بأنهم ليسوا وحدهم وأن من ورائهم جماهير غفيرة وشعوباً تسندهم وتؤمن بما يؤمنون به وتدافع عنهم وتحمل أصواتهم إلى كل ركن من أركان العالم لأنهم نذروا أنفسهم من أجل قضية مقدسة؛ فهل يعقل أن يخوضوا معركتهم، أياً كان شكل هذه المعركة أو حجمها، وكأن قضيتهم تعنيهم هم وحدهم فقط وأُسَرهم؟ من دون أن يتمّ تقديم كل أنواع الدعم لهم كي يستمروا في الصبر والصمود وكي يبقى مشعل القضية مضيئاً تتخاطفه الأيدي في السجون وخارجها مع الإيمان واليقين أنهم ليسوا وحدهم ولن يكونوا وحدهم في حياتهم أو بعد استشهادهم.
معركة الأمعاء الخاوية التي يخوضها الأسرى في سجون الاحتلال منذ سنوات هي تعبير عن تصميمهم على إيصال صوت معاناتهم إلى أصحاب الضمائر في العالم والذين من المأمول أن يخوضوا بالنيابة عن الأسرى حرباً إعلامية ضد احتلال عنصري غاصب يعلم كيف يقدّم روايته للعالم وكيف يدخل إلى مناهج وعقول الآخرين مستخدماً اللغة التي يفهمونها والطريقة التي مردوا عليها في النقاش والمحاكمة.
ولكن هل عجزت مئات الملايين من أبناء هذه الأمة عن إيجاد صيغ أخرى أقلّ كلفة للأسرى وأكثر تأثيراً في الرأي العالم العالمي وأكثر إنتاجية فيما يخصّ حقوق الأسرى وحقوق الفلسطينيين جميعاً؟ فكم هم المعنيون الذين يعرفون عدد الأسرى في سجون الاحتلال والأسباب الواهية لاعتقالهم والظلم الذي لحق بهم وبأولادهم وبأسرهم على مدى عقود؟ وكم هي الضمائر الحيّة في العالم التي وصلت إليها رواية الأسرى الفلسطينيين والجولانيين والعرب بأسلوب وطريقة تحدث أثراً وتدفع إلى العمل الحقيقي للمؤازرة وتبنّي القضية وإدراجها في قائمة الاهتمامات؟
لقد تحدث الأسير الشهيد مدحت صالح على مدى ساعات عن معاناة الأسرى الجولانيين والفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي والتي لم نكن نعرف عنها إلا النزر اليسير من قبل، وأدلى بتفاصيل لا يمكن لأي إنسان أن يتجاهل وقعها على النفوس والضمائر وسوف تنشر كاملة، ولكن كم هي آلاف القصص التي تستشهد مع الأسرى الشهداء من دون أن يسمعها أحد أو يسجلها أحد ناهيك عن إيصالها إلى أسماع وضمائر العالم ليس فقط ضمن حدود العالم العربي وإنما في العالم برمته.
لقد استخلصت مراكز الأبحاث الأميركية والصهيونية مؤخراً أن تخصيص ميزانيات هائلة للشأن العسكري لم يعد مجدياً اليوم في عالم تتجاذبه الرواية السردية في وسائل إعلام ومنظومات إعلام تقني تتوالد كالفطر يومياً في الكم والنوع وحرية الاستخدام وحرية الوصول إلى قلوب وعقول الآخرين، بل أصبح من المجدي أن تخصص نصف هذه الميزانيات، وفق استنتاج هذه المراكز، لصياغة ونشر وتسويق الرواية التي يرتؤون لأن هذه العملية قد توفر معارك وأسلحة وحروباً؛ إذ أصبح من الممكن خوض الحرب الفكرية والمجتمعية والحقوقية من خلال إتقان السرد والتوجه به للمعنيين، بالأسلوب والمحتوى اللذين لا يمكن مقاومتهما.
في هذا الوقت بالذات والذي تحتاج فيه قضايانا إلى الرواية المناسبة أولاً للتخلص من كل التشويه الإعلامي المقصود والمتعمد لكل ما يجري على هذه الأرض الطيبة من فلسطين إلى اليمن مروراً بسورية والعراق وليبيا هل يعقل أن نعدم الوسيلة لنملأ المشهد الثقافي والمجتمعي الدولي بتفاصيل روايتنا وجزئيات أحداثنا من دون أن نفترض أبداً أن الآخر يعرف وأن المعلومات متاحة؟ حتى وإن كانت المعلومات متاحة، وهي ليست كذلك، فلا بد من بذل الجهد وتوثيق تفاصيل قضايانا وتحويلها إلى قصص وروايات وأفلام ومسرحيات وإيصالها بالشكل اللائق والمؤثر إلى الآخرين.
في هذا الوقت بالذات يمتلك العرب جميعاً أغنى وأجزل لغة عرفتها البشرية بعشرة ملايين مفردة لا يرتقي إليها سرد أي لغة أخرى في العالم، ويمتلكون إرثاً من الأدب والشعر والفنون، يمكنهم أن ينهلوا من معين لا ينضب وأن يأسروا العالم لأن الرسالة رسالة حق، وحاملة الرسالة لغة يشهد لها الأعداء والأصدقاء أنها لغة فريدة في جمالها وجزالتها وغناها.
أين تكمن المشكلة إذاً؟ المشكلة تكمن في أننا لا نتعاون كفرق عمل معنيين بقضايانا ولم نؤسس لآليات عمل تصهر الجميع في بوتقة القضية من المفكر إلى الكاتب إلى المموّل إلى الفنان والمسرحي والمخرج، لأن هذا يحتاج إلى بلورة المفاهيم أولاً والاتفاق على الأولويات والانخراط في مشروع يشعر معه الجميع أنه مشروعهم وأن نجاح هذا المشروع وتسويقه يعنيهم مباشرة؛ أي ألا نترك المعارك كي يخوضها أفراد بشكل فردي مهما كانوا عظماء ومخلصين ومضحين، لأن الخلاص ليس فردياً أبداً ولم يكن خلاص أي أمة في التاريخ فردياً بل كان دائماً خلاصاً جماعياً أساسه الرؤية الجماعية والعمل الجماعي.
لقد أدهشتني زوجة الأسير نائل البرغوثي والتي كانت هي أسيرة أيضاً حين قالت: «كلما زرته لا أشعر أنه في السجن بل هو متأكد أن هذا السجن مؤقت وأنه في طريقه إلى الحرية وأن هذا العدو لن يتمكن من النيل من إرادته»، وقالت: «هو لا يتحدث عن السجن أبداً بل دائماً يتحدث عمّا بعد السجن وعن زمن الحرية القادم لا محالة مهما حاول الأعداء أن يحطوا من معنوياته وعزيمته».
إذا كان مثل هؤلاء الأسرى الأبطال أحراراً بإرادتهم وعزيمتهم وهم مكبلون بالأصفاد أفليس حرياً بهذه الأمة المؤلفة من مئات الملايين والناطقة بأجمل لغات الأرض والممتلكة لإرث معرفي وحضاري عظيم أن تتفوق بحمل سرديتها وروايتها إلى كل أصقاع الأرض وألا تترك الأسرى لمعركة أمعاء خاوية يجب ألا يضطروا إليها أبداً لأن «حريتهم مسؤوليتنا جميعاً».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن