من دفتر الوطن

«تحالف الأغبياء» يضرب مجدداً!

| حسن م. يوسف

«عندما يولد عبقري في العالم، يمكن تمييزه بهذه العلامة، إذ يشكل الحمقى تحالفاً ضده».
بهذه الأبيات للشاعر والأديب الأنجلو- إيرلندي الساخر جوناثان سويفت (1667 -1745) استهلَّ الكاتب الأمريكي جون كيندي تول (1937-1969) روايته «تحالف الأغبياء» التي أنهى كتابتها بعد تسريحه من الجيش سنة 1963، غير أن كل من التقاهم من الناشرين أجمعوا على رفضها، فأنهى حياته بيده يوم 26 آذار 1969 تحت وطأة شعوره بالقهر والإحباط. غير أن أم الكاتب لم تفقد إيمانها بما أنجزه ابنها، فتابعت ما بدأه، وبعد اثني عشر عاماً من البحث، عثرت على ناشر للرواية بمساعدة الكاتب «وويكر بيرسي»، وكان أن فازت عام 1981 بجائزة (بوليتزر) التي تعتبر أهم جائزة أدبية في العالم بعد جائزة نوبل، ووصفت الرواية من لجنة الجائزة بأنها «ملحمة كوميدية مرموقة»، وهي تعتبر الآن من كلاسيكيات الأدب الأميركي، «وواحدة من علامات أسلوب السخرية السوداء التي ظهرت في السرد الأميركي في القرن العشرين».
غير أن الرواية تتجاوز الكوميديا السوداء إلى السريالية، في كثير من الأحيان، فبطلها أغناطيوس شاب بدين غريب الشكل والأطوار لا يتوقف عن الأكل، يحمل شهادة ماجستير في آداب القرون الوسطى، ويعيش مع أمه الأرملة الشرهة المصابة بداء التهاب المفاصل، ويخوض حرباً يائسة ضد عالم الاستهلاك المبتذل، بغية تغييره، هي أشبه بحرب دون كيشوت ضد طواحين الهواء.
في مطلع تسعينيات القرن الماضي أهداني أحد الأصدقاء المقيمين في الخارج نسخة بالإنجليزية من رواية «تحالف الأغبياء». والحق أن لغتها الغريبة وحواراتها العامية وأجواءها المقبضة جعلتني أتوقف عن القراءة بعد خمس وأربعين صفحة. وذات يوم كنت في مبنى «مجلس الوزراء» عندما صادفت الأستاذ عدنان بغجاتي الذي كان مستشاراً هناك. أثناء ارتشاف القهوة في مكتب الأستاذ عدنان تذكرت أنني سبق أن قرأت نصاً عويصاً من ترجمته عن الفلسفة الهندية، وقد أذهلتني الترجمة الواضحة لأنه سبق لي أن حاولت قراءة نفس النص بالإنكليزية، غير أني كففت عن المحاولة منذ الصفحة الأولى. اعتبر الأستاذ عدنان كلامي إطراء لترجمته الجديرة بالإطراء حقاً، فأطلق ضحكة طيبة واندفع بعض الدم إلى وجهه الشاحب، قال بصوت خافت: «أنا أستمتع بترجمة الأعمال الصعبة». تذكرت عندها رواية «تحالف الأغبياء»، ولما حدثته عنها أخذه الحماس وطلب مني بإلحاح لا داعٍ له، أن أحضرها له في اليوم التالي عندما أنزل إلى الجريدة. في المساء اتصل الأستاذ عدنان وسألني إن كنت قد عثرت على الرواية، فأكدت له أنها أمامي، وبعد حوالي ساعة اتصل بي ثانية وطلب أن أضع الرواية في حقيبتي فطمأنته أنني قد فعلت. وفي الصباح التالي اتصل مجدداً أثناء كتابتي لمقالي الأسبوعي، وذكّرني أنه بانتظاري!
بعد حوالي أسبوع من تقديم الرواية للأستاذ عدنان بغجاتي اتصل بي وقال بمودة وامتنان: «أشكرك، جزيل الشكر يا صديقي، لأنك أهديتني هذه الرواية التحفة».
وأبلغني أنه قد شرع في ترجمتها. ومن سخرية القدر أن الأستاذ عدنان بغجاتي توفي وقد بقيت عليه ترجمة عشر صفحات من الرواية. وعندما قام مترجم آخر بإكمال الترجمة وصدرت الرواية عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق، كتبت يومها مقالاً عن هذه الصدفة السوداء بعنوان «رواية (تحالف الأغبياء) تقتل كاتبها ومترجمها». وها نحن اليوم نرى إلى «تحالف الأغبياء» وهو يكاد يهدد الأمة كلها بالموت!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن