لا نعلم حتى الآن هل أن ما يجري بين بعض الدول في الخليج العربي ولبنان هوَ مجرد «مزحة هالوين» يلفّها الرعب شكلاً ويقتحمها الهزل مضموناً؟ أم أن ما يجري فعلياً هي بداية لطريقةِ تعاطٍ جديدة مع البلد الذي أوقفت مسيرتهُ كذبة الطائفية السياسية وهدَّمت محظورات العقد الاجتماعي فرضية «الكثير من الحرية والقليل من الديمقراطية»، وصولاً إلى تعويم الفشل كطريقةٍ للنجاح عبر العبارة الأسوأ: «قوة لبنان في ضعفه»! ما أكذبَ فصاحتنا في هذا الشرقِ عندما ننتقي العبارات التي تبرِّر الضعف، ليتنا نستثمر هذه الفصاحة في مكانٍ أهم.
متى سنفهم في هذا الشرق بأن ما من مصلحةٍ لأحد بصبِّ الزيت على النار؟ تحديداً عندما نبدو وكأننا نعيش في مرجلٍ كبير ينتظر كل منا دوره ليطوله الحرق؟ في هذا الشرق إياكَ أن تصفق حتى لو تشاجر أمامك اثنان على دورِ فرن أو محطةَ بنزين لأننا بارعون بتقمص شخصيةِ الزير على بعضِنا البعض، حتى لأتفه الأسباب سيخرج جساس ما ليقول كلمته التي تجعلنا نتحسر فيها على البسوس وما زلنا لا نتعظ؟! بارعون بالوقت ذاته بتقمصِ شخصية ذاك القصير الذي جدعَ أنفهُ حباً بالانتقام، ما أسوأ الانتقام عندما يكون مبنياً على الحقد!
القضية هنا ليست مرتبطة فقط بمفهوم حرية الرأي ووجهة نظر الآخرين منها، في هذا الشرق عدم قبول الرأي الآخر ليسَ حكراً على من امتعضوا من اعتبارِ حربهم عبثية، وهيَ كذلك، لأن الأطراف الأخرى لا تبدو واحة للديمقراطية حتى تُحاضر بها، هل يمكن لإعلامي في محطة إعلامية عربية أو غير عربية انتقاد الجهة السياسية الداخلية أو الخارجية التي تدعمه؟
لا يُحسد لبنان على موقفهِ تماماً كما أنه لا يحسد على شيءٍ، والوضع الداخلي فيه يكاد يشتعل، فالمواقف الخليجية تبدو نهائية، هذا الأمر قد رأيناه في أكثر من مناسبة مع فرق كبير بأن قدرة لبنان على التحمل في ظل ما يجري فيه من كوارث لا تبدو كبيرة، دعكم من الكلام هنا وهناك عن إمكانية تعويض علاقة هذا الطرف بالعلاقةِ مع أطراف أخرى، بالمنطق العام ليسَ من مصلحةِ لبنان، «لأنه لبنان»، خسارة عمقه العربي وتحديداً الخليجي، مع التأكيد على فكرة أن ما قالهُ الوزير جورج قرداحي كلام حق ولم يخطئ، لكن تصاعد ردة الفعل بهذه الطريقة توحي بالكثير من التساؤلات:
أولاً: ماذا عن التوقيت؟
بواقعيةٍ تامة لا يبدو الحديث عن فكرة التوقيت وربط هذا الأمر بأحداث متشابكة فيهِ الكثير من الدقة، فالدول الخليجية التي تساند السعودية دعمت الحكومة اللبنانية ولم تقف حجر عثرة في وجه تشكيلها، بل إن كل ما كان يجري بدا وكأنه في سياق التوافقات التي تسير في المنطقة، بالوقت ذاته لا يمكن دائماً تكرار عبارة أن السعودية خسرت في لبنان، لذلك هي فعلياً تريد قلب الطاولة؟ واقع الأمر لم يتزحزح النفوذ السعودي هناك حتى الآن، تحديداً عندما نسمع التصريحات المتتالية لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي والطريقة التي يخطب فيها ود السعودية، بل هناك ما هو أبعد من ذلك: ما كان الميقاتي ليقبل التأليف أساساً لولا الضوء الأخضر السعودي.
ثانياً: هل تريد السعودية من هذه الشوشرة إعادة سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة؟
هذا الكلام يبدو عملياً بعيداً عن الواقع. مبدئياً هذا الكلام يفترض استقالة الحكومة بالكامل لأن رئيس الوزراء لا يملك صلاحيات إقالة وزير، كما أن دفاع رئيس تيار المردة النائب السابق سليمان فرنجية عن الوزير الذي سماه ورفضه أن يكون «كبش محرقة» بدا موقفاً رجولياً ترفع له القبعة، لمنع تكرار تحول الوزراء إلى كبش فداء بالاستناد لآرائهم. من جهةٍ ثانية فإنه من الواضح بأن السعودية قبل غيرها سئمت من سعد الحريري، لكن المشكلة الأعمق لدى السعودية بأنه لا يوجد بديل منطقي ضمن العائلة، الحريري احترقت ورقته إلى غير رجعة بل هناك من يشير إلى ما هو أهم أي تحرر السعودية من لي ذراعها عبر سعد الحريري، لذلك لا تبدو السعودية اليوم بهذا الوارد.
ثالثاً: هل الهدف فعلياً تفجير لبنان من الداخل؟
ليس هناك من مصلحة لأحد بتفجير الوضع في لبنان هذه الديباجة مع كل حدث، بضرب هذا البلد، تبدو عملياً تكراراً ببغائياً، حتى الولايات المتحدة الأميركية بدت تغرد خارج السرب الذي انتظره البعض عندما دعت الدول الخليجية المنتفضة بوجه لبنان لإعادة ضبط البوصلة جيداً. في المعنى العسكري كذلك الأمر يدرك الجميع بأن المقاومة قادرة على أن تحسم أي مواجهة داخلية إن فُرضَت عليها المواجهة، بل على العكس هناك من بات يفهم في الأوساط السياسية وتحديداً الأوروبية، أن المواجهة الداخلية في لبنان هي صك تسليم لبنان لحزب اللـه وحلفائه. أما إن كان الحديث عن تفجير الوضع لضمان وصول قوات دولية تُنهي سيطرة الحزب فهو كلام كذلك الأمر ليس منطقياً، ما هكذا يفكر عُتاة المؤامرات لأنهم يدركون ببساطة أن هكذا حدث لن يمر عبرَ المؤسسات الدولية ومروره على الطريقة العراقية سيكون عبر مواجهة بين عدة محاور لن تفي بالغرض، على العكس هناك من يذهب بعيداً للقول: لماذا لا يفكر اللبنانيون جدياً بممارسة الحكم بعيداً عن ضغط السفير السعودي؟
في الخلاصة: دعونا نتعاطى مع ما يجري بالكثير من التبسيط، دعكم من التهويل والكلام والكلام المضاد الذي لن يستفيد منه إلا من يريدون فتح المزيد من حمامات الدم في هذا الشرق البائس، هناك أزمة دبلوماسية بين بلدين بمعزل عن الأسباب فلندع لهما حل المشكلة بالطريقة التي تسهم بكبح المزيد من الانفلات ولا داعي للكثير من سكب الزيت على النار، وسعي كل طرفٍ بأي وسيلة لتعويم وجهة نظره ورفضه الكامل لأي وجهة نظر مقابلة، عبر التصريحات والكتابات العبثية التي تزيد الوضع تعقيداً، ألم نملَّ في هذا الشرقِ من هذه الهواية؟ ببساطة إن لم يكن لديك كلام يُخمد هذه النيران فمن الأفضل لك ولنا أن تصمت!