حين استعَرَتْ حرب الخليج الأولى في كانون الثاني 1991 كنت أمضي سنة دراسية بحثية في جامعة ديوك في الولايات المتحدة الأميركية. وبعد أن رفض طارق عزيز استلام الرسالة التي أرسلها الرئيس جورج بوش مع جيمس بيكر إلى صدام حسين انطلقت تهديدات الإرهاب واختطاف الطائرات وأصبحت الحركة الملاحية الدولية محفوفة بالمخاطر. حينها عمل عدد من أصدقائي الأميركيين العاملين معي في الجامعة على إقناعي أن أستقدم أسرتي وأن أبقى في الولايات المتحدة وأتابع أبحاثي وتدريسي، وأنهم مستعدون لتقديم كل العون لي من أجل تحقيق ذلك. ولله الحق يجب أن أقول إن الشعب الأميركي مختلف اختلافاً جذرياً عن حكوماته؛ فهو شعب طيب وبسيط ومحب ولا علاقة له بالأجندات الحربية التي تنفذها شركات السلاح والأموال على مدى قرون.
في ذلك الوقت وبعد تفكير عميق وجدي ومفصلي أدركتُ أن الذي يجمعني بالوطن ليس فقط أسرتي على الرغم ما للأسرة من مكانة حيوية ومصيرية في قلبي وحياتي؛ فأنا لم أستطع أن أتخيل العيش في الولايات المتحدة من دون أن أرى جيراني كل صباح ومن دون أن أزور مدرسة الأولاد وأسأل عن أدائهم، ومن دون أن أطلب رضا أبي وأمي كل أسبوع، ومن دون أن أراقب القمر من مرحلة الهلال إلى البدر ومن دون أن أتابع تحول السماء الصيفية إلى سماء خريفية جميلة فضية اللون تبعث على الراحة والأمل، ومن دون أن أسمع الأذان وصلاة التراويح في رمضان، ومن دون أن أزور مع صديقاتي دير صيدنايا ومعلولا.
في الواقع لم يكن قلمي سلساً في الولايات المتحدة كما عهدته في دمشق أبداً وشعرت أن الوطن هو جملة تفاصيل تشكل وجداننا وفكرنا وضميرنا ولا يمكن فصل أي عنصر منها عن العناصر الأخرى أو الاستغناء عن بعضها وإمكانية الشعور بالامتلاء النفسي والروحي وممارسة الحياة العادية وكأن شيئاً لم يكن.
كلّ هذه المشاعر عادت إليّ وبقوّة حين قرأت مقال الصديق كمال خلف في «رأي اليوم» الأسبوع الماضي بعنوان: «سنونو ياسر العظمة… عندما خرج الشامي العتيق من حارات الشام إلى فنادق دبي ويخوتها الفخمة… إخفاق فني وثوب مصطنع لا تعكسه المرايا» وناقش في هذا المقال أعمال عدد من الفنانين الذين غادروا الوطن وحاولوا إكمال مسيرتهم الفنية في المكان المختار حديثاً ولكن أعمالهم هناك رغم الوفرة المادية والإمكانات التي وُضعت بتصرفهم والتي تفوق إمكاناتهم في الوطن لم ترقَ إلى ما أنتجوه في وطنهم سورية التي أوصلتهم إلى هذه النجومية والتي فتحت لهم الأبواب في أماكن ربما توفر أسباب الراحة ولكنها لا تستطيع أن تقدم لهم ملح الحياة في الوطن بصدقه وتفاصيله ونبضه الذي كان سرّ نجاحهم وتألقهم.
حين قررت أن أحزم حقائبي وأعود إلى وطني عام 1991 رغم الفرص الأكاديمية والبحثية المغرية التي قُدمت لي وفي أكثر من جامعة أميركية، واستمرت هذه العروض حتى عام 1994، ورغم توقي الشديد للانغماس في البحث المعرفي في مكتبات وجامعات تقدّم لي كل ما أحتاجه إلا أنني أدركت وبيقين أنني لن أكون أنا خارج سورية وأن قدرتي على الكتابة والإنجاز لا تكتمل إلا إذا كنت في النسيج الذي أشعر وبعمق أنني جزء منه وأنه الأساس والأصل اللذان أنا منهما، وعلمت منذ ذلك الوقت أنني أعيش أو أموت في بلدي وليس في أي مكان آخر.
علّ هذا هو المنطلق الذي تحدث عنه الروائي غابرييل غارسيا ماركيز حين اعتبر أن «المحليّة هي العنصر الأساس للانطلاق إلى العالمية» وأنه لا توجد عالمية دون أن تكون نابعة من عناصر محلية متجذرة في ضمائر وعقول البشر يرى الآخرون فيها في أصقاع الأرض المختلفة مرآة لأنفسهم أو يتوخون عندها فهم أسباب تجاربهم والحلول المجترحة والتعلم من تجارب الآخرين دون الوقوع بأخطائهم.
لكلّ هذا وذاك فإن الحديث عن الوطن ليس حديثاً رومانسياً بل يدخل في صلب تكويننا ومسار حياتنا ومستوى أدائنا وارتقائنا في اختصاصنا أو على سلّم الإنسانية، ولذلك أيضاً فإن الصمود الإيجابي الذي تحدث عنه السيد الرئيس بشار الأسد لدورة القيادة والأركان هو صمود من أجل احترام الذات وكرامة الإنسان لأن كرامة الإنسان منقوصة جداً من دون وطن، ولأن كل ما يروّجون له من مواطنة عالمية ومسار إبراهيمي يسلبنا خصوصيتنا ولوننا وتاريخنا هو ترويج لتسطيح العالم والسيطرة على أصحاب العقول الضعيفة والتحكم بمقدرات بلدانهم والعبث بمستقبلهم حين لا ينفع الندم ولا يمكن التراجع.
أتذكّر بدء الإشكالية حول الموقف والوطن في ثمانينيات القرن الماضي حين بدأت دول البترودولار تستقطب أهم الأسماء من جامعاتنا بدأت الهمسات عمّا يجب أن يكتبه أو ينشره البعض كي يجد له مكاناً في الجامعات أو حتى المدارس الناشئة هناك والتي تعطي رواتب مجزية لا يمكن لبلداننا أن تدخل في مجال منافسة معها. ولكن الذي لاحظناه بالفعل وبعد عقدين من الزمن هو أن الأسماء الكبيرة التي كانت مالئة الدنيا وشاغلة الناس في بلاد الشام قد انطفأت بعد أن ذهبت إلى هناك ولم يعد يسمع أحد بتألقها أو بإنتاجها، وبدأتُ أناقش مع الزملاء القلائل الذين حسموا خياراتهم وإياي طبعاً بعدم تقديم طلب حتى لهذه الجنة الموعودة ما إذا كان الهدف هو استقطاب هذه الأسماء الكبيرة المنتجة وتسطيحها هناك وإغراقها بالدولار بحيث تتغير أولوياتها وتنطفئ مرة وإلى الأبد.
قد يكون هذا عن قصد أو غير قصد وقد تكون هذه النتيجة الطبيعية لذلك المسار ولهذا فمن المهم أن يكون المرء واضحاً وحاسماً ومبدئياً وألا يستهين حتى بكلمة يقولها لأن الكلمة مسؤولية والكلمة شرف والكلمة موقف ومن ينزلق بكلمة أو موقف ستنزلق قدماه بالنتيجة إلى أسفل الهاوية سواء أراد ذلك أم لم يرده. من هذا المنطلق يبدو لي الموقف الذي أخذه الأستاذ جورج قرداحي موقفاً محقاً وعادلاً وشجاعاً في الوقت نفسه. هل يمكن محاسبة وزير على ما أدلى به قبل استلام ملف وزارته رغم التزامه اليوم بسياسات الحكومة؟ لكن الهدف ليس فقط جورج قرداحي باسمه الكبير إنما الهدف هو ترهيب كل من يتجرأ أن يتخذ موقفاً يتنافى مع رؤية البعض أو يتعارض معها. ولذلك تمّ التصعيد بهذه الطريقة غير المفهومة لأن عشرات التصريحات كانت مشابهة لما أدلى به السيد قرداحي ولكنّ اسمه الكبير استدعى هذه المعركة من أجل تحذير كل الإعلاميين والكتاب وأصحاب المواقف من أن يخوضوا في شأن لا يروق للبعض أن يخوضوا فيه ويخشوا من النتائج.
ما الذي طُلب من سيدنا الحسين عليه السلام سوى أن يقول كلمة لكن جوابه كان أن شرف الرجل هو الكلمة وأن شرف اللـه هو الكلمة وأنه في البدء كانت الكلمة، ولذا فالكلمة موقف والموقف وطن والوطن مصير وحياة، وقد أثبت التاريخ مراراً وتكراراً أن أصحاب الكلمة والموقف أقوى من كل إمبراطوريات المال والسلاح مهما عظمت إغراءاتها وخطورتها، وأن كل الماكينات الإعلامية تعجز عن مواجهة موقف صلب وحاسم يرفض أن يتنازل عن كلمة حق بوجه سلطان ظالم؛ فمن يتنازل عن كلمة يتنازل عن وطن، ومن يتنازل عن وطن لا حياة ولا قيمة له بعد ذلك.