قضايا وآراء

مناقشة الدستور.. عن أي دستور نتحدث؟

| د. بسام أبو عبد الله

اختتمت قبل أيام الجولة السادسة من مفاوضات لجنة مناقشة الدستور السوري في جنيف، التي عبر ممثل الأمين العام للأمم المتحدة غير بيدرسون عن خيبة أمله من عدم تحقيقها أي تقدم يذكر من دون أن يبين لنا لماذا خيبة الأمل؟ وما التقدم المطلوب حتى تزول خيبة أمله المستمرة، ويرضى هو والدول الغربية عن مخرجات الجولات القادمة؟!
قد يعتقد البعض أن موضوع تعديل الدستور السوري الحالي لعام 2012، أو كتابة دستور جديد هي عملية بسيطة وسهلة، ويمكن إنجازها بوقت قصير، وهذا الأمر قد يكون صحيحاً فيما لو كانت المجموعات السورية المشاركة من قبل ما يسمى «معارضة» أو «مجتمع مدني»، تتمتع بروح وطنية، وتتطلع فعلاً لمستقبل بلدها وشعبها، وليست مجموعات تقف خلفها دول ومؤسسات غربية توجهها، وتعد لها الوثائق والدراسات اللازمة لتدفع بها في أروقة الأمم المتحدة، مدعية الرغبة في بناء الديمقراطية والحرية، وتعزيز حقوق الإنسان، حتى توهم المتابعون والسوريون بأن المشكلة هنا، وبأن حرباً فاشية شارك فيها عشرات آلاف القتلة والمجرمين والمتطرفين، وضُخت من أجلها مئات مليارات الدولارات، وأجهزة استخبارات العالم، وإعلامه المعولم، كل ذلك من أجل الدستور، ومستقبل سورية وشعبها!
هكذا قد يتوهم البعض، وقد يعتقد، ويؤمن مع تتالي التقارير الإعلامية بعد كل جولة في جنيف بأن الوفد المدعوم من الحكومة السورية هو الذي يعرقل، ولا يريد التوصل إلى نتائج فعلية، ويعمد إلى المماطلة، على الرغم من أن هذا الادعاء ليس صحيحاً أبداً، وأن الوفد المدعوم حكومياً يقدم أوراقاً واضحة تستند إلى المصالح الوطنية السورية، وإلى نضالات السوريين وتضحياتهم، ودماء عشرات آلاف الشهداء، وآلام آلاف الجرحى، وليس إلى دعم غربي أميركي أو تركي، لا يهمه سوى مصالحه، وإضعاف سورية ودورها، ومحاولة التذاكي بالاعتقاد أن بإمكانهم عبر لجنة مناقشة الدستور تحقيق مكاسب ومصالح لم يحققوها طيلة سنوات عشر من هذه الحرب الفاشية، وهذا وهم وانفصال عن الواقع مازال البعض يعيشه.
هناك زوايا مهمة تتعلق بالدستور السوري لابد من الإضاءة عليها بهدف فهم أعمق لما يجري الآن:
1- يكذب بعض المعارضين السوريين الذين يمثلون علينا منذ سنوات عديدة بأنهم دعاة ديمقراطية وحرية، وهم للأسف ليسوا إلا أدوات رخيصة بيد قوى الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، خاصة عندما يكذبون بأن واشنطن لا تنام الليل حتى يكتب السوريون دستورهم ومواده، مادة مادة، وأن همهم الأساسي المساعدة في ذلك كجمعية خيرية لكتابة الدساتير، بدليل أنه مع كل جولة في جنيف يتقاطر الموفدون الغربيون لدعم جماعات المعارضة بالأفكار والنيات الطيبة، والدراسات والأفكار والدعاء بالنجاح، على الرغم من أن هذا الكلام لا يصدقه إلا ساذج أو أبله.
تكتب السيدة ماريا خودينسكايا في كتابها «سورية: الطريق الصعب من الحرب إلى السلم» المترجم للعربية والصادر هذا العام 2021، أن كل الوثائق المتعلقة بالتسوية السورية في زمن دي مستورا كان يضعها ممثلو أستراليا روبرت دان، وبريطانيا م. ميوللر، وألمانيا ف. بيرتيس- ك. ونيلاند، وهولندا س. شروتين، والنرويج يان إيغلاند، والواضح كما تقول إن مدرسة التفكير الغالبة في هذه الوثائق هي المدرسة الغربية، واستندت إلى مخرجات مراكز الفكر الأميركية والأوروبية، وإلى أولويات السياسات الخارجية لهذه الدول، من دون الفهم لمقاربات الحكومة السورية وأولياتها!
أي إن الأساس في الطروحات الغربية هي مصالح هذه الدول، وليس المصالح الوطنية السورية، وهذا معيار للقياس عليه في جولات جنيف الماضية، واللاحقة بالنسبة للدستور أو غيره.
2- واهم أيضاً من يعتقد أن واشنطن وحلفاءها يريدون بناء الديمقراطية في أي بلد في العالم، لا بل إن تجاربها فاشلة جداً، على الأقل في التاريخ المعاصر في العراق وأفغانستان، أو إنها تريد دساتير عصرية ومتقدمة، وتجربة العراق مثلاً في دستورها ما بعد الاحتلال مريرة، وما تزال مفخخة في كل خطوة يتحرك العراقيون فيها، إذ يكتب أحد الأكاديميين العراقيين في عام 2019 أن الدستور العراقي كتبه مدرس قانون يهودي أميركي صغير سناً، ومرتبة علمية وأكاديمية، كلف من قبل الحاكم الأميركي بعد احتلال العراق بول بريمر، ولم يستشر به أي عراقي أثناء كتابة النصوص سوى شكلياً، وكل من عارضه تم اغتياله حيث جرى شطب هوية العراق العربية، وأدخلت مواد تغذي الفكر الطائفي المذهبي والعرقي، وتمهد لتقسيم العراق من خلال التركيز على الدولة الاتحادية وليس الموحدة، على الرغم من أنه لا يحق لدولة الاحتلال كتابة دستور في البلد المحتل أو إلغاء القوانين والدساتير بموجب القانون الدولي، وسبق لليابانيين والألمان أن رفضوا مثل هذه المقاربة، وأوكلوا الأمر لمشرعين وطنيين كتبوا دستور البلاد على الرغم من هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية.
أحد الخبراء الأميركيين الذين ساهموا في المناقشات حول مسودة الدستور العراقي كتب في «لوس أنجلس تايمز» مقالاً بدأه بالقول: «غداً سيذهب العراقيون للتصويت على دستور لم يقرؤوه، ولم يكتبوه، ولم يساهموا في مناقشة بنوده، ولا يعرفون شيئاً عن محتواه».
3- في عام 2020 نشرت البروفيسورة الأميركية اليزابيت تومسون أستاذة التاريخ في جامعة فيرجينيا كتاباً بعنوان «كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب: المؤتمر العربي السوري عام 1920، وتدمير التحالف التاريخي الليبرالي الإسلامي»، تقول فيه إن البريطانيين والفرنسيين لجؤوا إلى مقاربة عنصرية لتسويغ احتلالهم سورية الكبرى، والعراق بعد الحرب العالمية الأولى، وإن الغرب استنكر مجهودات سورية في تأسيس ديمقراطية ليبرالية داخل المنطقة العربية، وتجربة السوريين عام 1920 حسب رأيها أثبتت القدرة التامة على حكم أنفسهم بطريقة ديمقراطية حديثة، وهو ما شكل: تهديداً للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، اللتين كانتا تروجان لفرضية أن احتلال المنطقة يتم لأن غير الأوروبيين ليسوا مؤهلين لحكم أنفسهم، لتخلص للقول إن دستور عام 1920 هو أكثر الدساتير ديمقراطية في العالم العربي على الإطلاق.
ما يفهم من كلام الباحثة الأميركية أن مصالح بريطانيا وفرنسا أولاً، وأنه لا قيمة للديمقراطية، ولا للدستور أبداً، وهنا: ما الفرق بين المقاربة البريطانية الفرنسية قبل مئة عام، والمقاربة الأميركية الغربية الآن؟! لا أعتقد أن هناك فرقاً أبداً، ولكن السوريين الأوائل اعتقدوا أنه بالنيات الطيبة، وبالدستور الليبرالي سيرضى البريطانيون والفرنسيون آنذاك، من دون أن يفهموا أن هذا آخر همهم وأن القوة هي التي تصنع التاريخ، والفرق بين مقاربتهم آنذاك، والواقع اليوم أن السوريين الذاهبين إلى جنيف يدركون أن خلفهم قوة جيشهم ودماء وتضحيات شعبهم، وقناعة كاملة أن السيادة والاستقلال ومكافحة الإرهاب ورفض التدخل في الشأن الداخلي والرفض القاطع لكتابة دستور سوري بأيد أجنبية أو الاستعجال في دستور، سيجعلنا ندفع الثمن غالياً نحن والأجيال القادمة.
إن قراءة التاريخ، والتجارب المحيطة، وعراقة السوريين بموقعهم الجيوسياسي، وخبراتهم، ووطنيتهم، وعروبتهم، وتضحياتهم الهائلة، وصلابة جيشهم، وقائدهم، وشعبهم، تؤكد للمرة الألف لكل من يتوهم أن بإمكانه تحقيق أهدافه عبر معبر دستوري هو مشتبه، ويسير خلف السراب، وما سيحدث أن السوريين لن يصوتوا إلا لدستور يحفظ سيادتهم، وعروبتهم، ووحدة شعبهم، وتنوعهم الحضاري والثقافي، ودورهم المقاوم للهيمنة الأميركية والغربية القادمة تحت عناوين براقة تارة ديمقراطية، وأخرى حرية، والهدف واحد هو سلب الحرية، وقتل الديمقراطية بكل الأدوات المتاحة.
إن السوريين الذين أنجزوا أهم دستور في العالم العربي قبل مئة عام، وقبل أن تولد الكثير من الدول التي تتنطح اليوم للتنظير علينا بأهمية الدستور، قادرون بكفاءاتهم، ووطنيتهم العالية أن ينتجوا تعديلات، أو دستوراً جديداً من دون تدخل من أحد، ومن دون وصاية، لأنهم انتصروا على عدوان مستمر منذ عشر سنوات، والمنتصر هو من يكتب المستقبل، ويؤمن للمهزومين تسوية تحفظ ماء الوجه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن