ثقافة وفن

في حديثه عن الثقافة العربية والإسلامية … هل خرج أدونيس عن رؤيته التي يقول بها منذ زمن؟ .. هل يرى المعترضون أن الثقافة العربية اليوم بخير؟

| إسماعيل مروة

أرسل لي صديقان، وفي الوقت نفسه شبه خبر أبتر عن محاضرة ألقاها المفكر السوري أدونيس في القاهرة، ويشير الخبر إلى أن حضوراً كثيفاً جاء لسماع أدونيس، وفي هذا ما يدل على أن المثقف العربي والمتلقي متعطش لسماع ما يستحق السماع، أو ما يتوقع أن يقول كلاماً مختلفاً عن السائد، وهذه علامة تسجل لمصلحة أدونيس والحضور، وغصّة ألا تكون محاضرة أدونيس في دمشق أيضاً كما في كل بقاع العالم، حيث يحتفى به وبفكره، مهما كانت ردود الأفعال.

هل فتح النار؟

لا أشك لحظة في أن صديقي الذي أرسل لي الخبر هو واحد من الحصيفين وأهم القرّاء، ولم يرسله بقصد الانتقاص، وإن لم يكن على وفاق مع الفكر الأدونيسي إن صح التعبير، كما لا أشك في المرسل الآخر وهو من محبي أدونيس، فالغاية لكليهما أن يطلعاني، وهما يعرفان عمق علاقتي الأدبية والنقدية بأدونيس وإنتاجه، هذه العلاقة التي تنمو باطراد منذ عام 2010 بعد حديث العمر الذي انفردت به «الوطن» منبراً دالة على عمق الحرية في الرأي واتساع الرؤية.. وقبل وصول الخبر عن طريق الصديقين كنت قد قرأته مدفوعاً بعنوانه: أدونيس يفتح النار..!

وبعد أن قرأته مرات، وعارضته بالنص على ما أرسله الصديقان، وجدت التطابق بين النصوص الواردة، ولكنني دخلت إلى الخبر لأجد صدق كاتبه في النقل، واختياره لعنوان إعلامي جاذب، ليس فيه ما يدل على النص غير اسم أدونيس، فالنص والمحاضرة يدلان على هدوء أدونيس الكبير في معالجة القضايا، فلا نار ولا أداة لإطلاق النار أو فتحه، بل إن ما في الخبر ينافي العنوان، فأدونيس المنتمي للحضارتين العربية والإسلامية، أو إن شئت للحضارة كما يريد كثيرون، يخاف على هذه الحضارة، يدافع عنها، ينتقد ويصوّب، يتحدث بالتواريخ والوقائع حباً بهذه الحضارة، وليس من باب خصومة، ولا يعقل لرجل بفكر أدونيس المنفتح والواسع والإنساني أن يفتح النار على جذوره وثقافته! ولا يعقل لرجل كسر جدار التسعين من الأعوام أن يفكر بالردّة على هويته وثقافته وحضارته وهي السبب الذي جعله بهذه المكانة العالمية..! ومن معرفتي بأدونيس شخصياً من خلال جلسات عديدة وطويلة، وبأدونيس فكراً وأدباً من خلال كتبه الكثيرة والغنية أؤمن بهوية أدونيس الثقافية العربية والإسلامية، وجذوره الفكرية التي لم يرغب في أن يتخلص منها في يوم، وفي حواري معه لم يتنكر لانتمائه العضوي لهذه الثقافة، من واقع هذه المعرفة أرى أدونيس المثقف المنتمي، ولكن انتماء الحب والعقل، انتماء الفكر، يرقب ثقافته التي يحب واقعها ومسيرتها وحاضرها، يريدها أفضل، يريدها على حقيقتها، وكل ذنبه أنه يشير إلى مواطن الخلل، يمسك مبضعه ليفتح القيح ويخلص جسد الثقافة من الفقاعات والثآليل، هو كذلك حقاً، لذلك كتب: الثابت والمتحول، المتنبي، بيروت ثدياً للضوء، الغرب، ولذلك ترجم أوفيد وتحولاته، وإيف بونغوا.. فليسمح الأصدقاء لأدونيس، وهو في هذا العمر الفكري والحياتي أن يشير إلى الإسعافات الأولية للثقافة العربية التي خرج منها، ولم يتخلّ عنها أبداً، وبقيت مدار تفكيره وكتاباته واختياراته، فأدونيس لم يفتح ناراً، وإنما أخرج من فكره حباً ضاق به، ويريد أن يوزعه على الناس، وهذا ما دفع القاهريين إلى الزحف بكثافة لسماعه وحواره ومناقشته، وما من أحد يزعم أن المجتمع القاهري غير متدين، ويمكن أن يقبل طعناً – لو وجد- لا يقبل به أشباه المتدينين في مكان آخر!

لكن القاهريين استمعوا وناقشوا كما فعل أدونيس من قبل في الإسكندرية وبيروت وكل مكان.. ولم يضق به مكان سوى المكان الذي يدّعي واحدنا وجود أحبابه، ويدّعي كثيرون حرية الفكر، لكن الحقيقة كانت غير ذلك، ولم تفتح القاهرة النار، لأن أدونيس لم يفتحها، بل كل ما كان هو نفثة مصدور!!

بين الماضي والحاضر

من أراد أن يطلق النار على أدونيس، أو من أراد لأدونيس أن يطلق النار على الثقافة العربية والإسلامية، وادعى أن أدونيس يقول: إنها لا تعلم سوى الكذب والنفاق والرياء، فهو نفسه من أعطى البراءة لأدونيس، وافترض أن عنوانه كان بقصد التشويق الإعلامي لا غير، لأنه من المحال لكاتب الخبر أن يكون بهذا التناقض الصارخ، فينقل أول ما ينقل من أدونيس قوله: (حال الثقافة العربية والإسلامية في الوقت الراهن ثقافة القرون الوسطى) ففي غمرة الانفعال لم يتنبه إلى قول أدونيس حال الثقافة الراهن، إلا إذا كان كاتب الخبر التحريضي راضياً تمام الرضا عن حال الثقافة العربية والإسلامية اليوم!

فهل الثقافة العربية والإسلامية بخير؟
وهل هي امتداد للثقافة العظيمة؟
وهل هناك ما يفتخر به اليوم ثقافياً؟
أين الشعراء المبرزون العظماء؟
أين المفكرون؟ وفي موضع آخر يقول أدونيس: (مفكرونا إما هاجروا أو صمتوا لصالح مثقفي السلطة).
أين الأبحاث الجادة والجديدة؟
أين الجامعات والتنوير ودورها؟
أليس عيباً أن نتحدث عن دار الحكمة زمن المأمون، وودورها التنويري ما من معهد على امتداد الوطن العربي نتحدث عن تفرده؟
هل يمكن أن نتحدث اليوم عن ابن رشد ومحيي الدين بن عربي، وعمّا تعرضا له، ونحن نجد في القرن الحادي والعشرين من يرفضهما؟!
هل حال الثقافة اليوم بخير ليستنكر من استنكر على أدونيس؟

حالتنا الثقافية اليوم لا تقبل ما قبله المتشددون من نزار قباني قبل ستين عاماً! ولا تقبل ما قبله خصوم طه حسين منه قبل قرن من الزمن! ولا تقبل ثقافتنا اليوم ماري عجمي ومي زيادة، ولن أتابع إلى عصور يظنونها متخلفة، ففي زماننا لا تقبل امرأة أديبة حرة كولادة بنت المستكفي (وأمشي مشيتي وأتيه تيها) ولو وجدت أي بارقة نسائية في زماننا نرجمها ونتحدث في أخلاقها!

هل حالنا الثقافية العربية والإسلامية بخير؟ أظن أن أدونيس الرائع لم يشأ أن يكون صادماً، لذلك ردّها إلى العصور الوسطى، وهي دون الوسطى، ودون الجاهلية، وحالنا الثقافية اليوم أسوأ مما يتخيل واحد ممن يريدون الدفاع عن ثقافة يجهلونها! نعم إن حالتنا الثقافية اليوم تستحق الرثاء، وربما رفض الرثاء أن يخصها بشيء.

حرية التفكير والتعبير

يعترف أدونيس وبوضوح بأنه لا يستطيع أن يقول ما يفكر فيه بصراحة! يرى الخبراء والمنتقدون بأن هذا من فتح النار على الثقافة العربية والإسلامية، وأدونيس يعيش اليوم، وعدم استطاعته يعود إليه وإلى الثقافة الحالية السائدة، وهذه الثقافة هي امتداد للثقافة العربية التي ورثناها، والتي يصغها أدونيس في غير ما مكان بأنها ثقافة عشائرية وقبلية ومذهبية وطائفية، ولم تصبح ثقافة معاصرة.. وهذا ما يذكره أدونيس عن الواقع العربي والإسلامي اليوم القائم على العنف والإرهاب، إذ يقول: (الإرهاب الحالي ليس سوى تنويع على إيقاع إرهاب قديم) وهذا القول قد يستنفز الكثيرين، وخاصة الذين يؤولون الإرهاب، ويرون أنه صناعة غربية، وتهمة استعمارية ألصقت بثقافتنا وإسلامنا، ولكن هؤلاء أنفسهم لا ينكرون وجوده بين أبناء الثقافة العربية والإسلامية، بل إن الظواهر العنفية في ثقافتنا ومجتمعنا صارت طاغية على مكونات المجتمع، وتحولت الى إرهاب متعدد، بيني من جانب، وتجاه الآخر من جانب آخر.. والمنتقد لا يريد أن يقف عند التحليل الذي طرحه أدونيس إذ يعزو ذلك للدول المسؤولة عن النظام العام، فبرأي أدونيس: الأنظمة العربية لا هم لها سوى الحفاظ على سلطتها، وهذا مسوّغ لما هو الحال في ثقافتنا العربية الحالية في واقعها، وبذلك فإن أدونيس لا يفتح النار على الثقافة العربية والإسلامية بمكوناتها، وإنما يفتح الأعين لتلمس الفاجعة في الحالة الراهنة للثقافة العربية.

ثقافتنا والآخر

في كتاب (الغرب) والذي نشره أدونيس مؤخراً في دمشق (دار التكوين) قدم ما لم يقدمه سواه عن الغرب والآخر عموماً ونظرته إلى العرب والمسلمين، إذ يستحي من نقل الصورة التي يوصف بها الإسلام في العالم خاصة من خلال الحرب العربية العربية التي لم تتوقف منذ 14 قرناً وفي مكان آخر، وفي كتاب (الغرب) وعلى قنوات عربية صرّح أدونيس بأن الغرب يحتقر العرب، وعلى قناة فرنسية قال بوضوح بأن فرنسا بلد الثورة والحريات لا تريد الحرية للعرب، وهي لا تدعم أي ظاهرة ديمقراطية، وإنما تدعم الدكتاتوريات.. قد يأتي من يقول: نحن الحضارة شاء من شاء وأبى من أبى!! وقد نسمع هذا الكلام كل يوم، وقد سمعته من أحد الموسومين بالعلم قبل يومين في محفل كبير! ولكننا نعيش في عالم متغير، نحن فيه الأكثر ضعفاً، فعلى من نفرض مشيئتنا؟! يلفت انتباهنا رجل قضى حياته في العالم الغربي إلى حقائق ضرورية ومن الواجب أن نعلمها.

وفرق كبير أن نرى أنفسنا مهمين وحضاريين، وبين أن نكون حضاريين فعلاً، والآخر يحترمنا لحضارتنا، وهذا ما يريد أن يقوله أدونيس، فكيف يحترمنا الآخر، والحروب البينية العربية العربية استهلكت حياتنا وحضارة الأمة؟ حتى ولو كانت المؤامرات والاستعمار والغرب هم من يفعل ذلك بنا، ويذكي نار الحروب، إلا أننا من يقوم بها، فهل هذا واقع ثقافي وحضاري يستحق الاحترام؟

والامتداد الطبيعي للحضارة العربية سبب من أسباب الحالة الراهنة، (فما أنا إلا من غزية) ومن حق المفكر أدونيس وسواه أن يستشعر وأن يعبر عما استشعره من أن العشيرة والقبيلة، والطائفة والمذهب هي من يأخذ كل اهتمامنا دون أي اكتراث أو اعتبار للفرد الذي عليه يقوم الإبداع، وعلى منجزه تقوم الحضارة.

ومنطقية أدونيس تأتي إلى هذا الاستخلاص الذي جعل الأمة المنساقة جمعياً وعشائرياً وعاطفياً وراء الشعارات لا تستفيد من الإبداعات الفردية التي كان من الممكن أن تؤدي دوراً حضارياً إيجابياً لولا الثقافة العشائرية، وذكر لذلك طه حسين وعلي عبد الرزاق وزكي نجيب محمود.

وهذه الفكرة تستحق الوقوف عندها، وربما أكثر من الوقوف عند النيل من أدونيس، فكمية الرسائل والأخبار والمقالات التي تحاول أن تهشّم هذه القامات الفردية المتنورة أكثر من أن تحصى، فهل حال ثقافتنا بخير؟

بعد خمسين عاماً من رحيل طه حسين ما نزال نسمع شتمه والانتقاص منه ومن رجال يفترض فيهم العلم، لم يقرؤوه، ولم يناقشوا طروحاته، ولم يدركوا دوره التنويري، ويجلسون للانتقاص من رجل كان سيداً في الأسلوب والتفكير، ومعاصروه ناقشوه باحترام، فهل يرى المعترضون أن ثقافتنا العربية والإسلامية اليوم بخير؟

الثورة على الذات

إن ما طرحه أدونيس في هذه المحاضرة، وطرحه منذ عقود هو أن أهم الثورات الناجحة التي تعطي نتائج إيجابية هي الثورة على الذات وليست الثورة على الآخر إذ يقول في هذه المحاضرة: «نثور على أنفسنا.. أعظم معلم للإنسان هو نفسه إذا كان صادقاً معها» والثورة التي يطلبها أدونيس كما عرفها وأعرفها هي ثورة على المفاهيم والركود، هي ثورة بإعادة القراءة والتقويم للأشياء، فلا يجوز لنا أن نبقى ضمن القراءات نفسها، وأن نحبس أنفسنا في قراءات تعود للقرون الماضية.. ويؤكد أدونيس في محاضرته انتماءه الذي أشرت إليه، فيؤكد: «أنا أحرص الناس على الدفاع عن المتدينين شريطة ألا يفرضوا آراءهم بالقوة على الآخر» وهذا الحرص نابع من انتمائه، ونابع من إيمان أدونيس بأن التدين حق للإنسان كما اللا تدين حق للإنسان أيضاً، والتدين هو حالة فردية بين العبد وربه، وقد فصّل ذلك في حديثه لـ«الوطن» المنشور في 2010، فالتدين حالة فردية يقوم بها الفرد، ومن الواجب أن ندافع عن حقه في أن يقوم بها، كما من الواجب أن ندافع عن حق غير المتدين في ممارسة حقه.

الحالة هذه التي يسعى إليها أدونيس هل هي مصانة؟
هل يقوم واحدنا بالدفاع عن حق الآخر في ممارسة قناعاته؟
وهذا يدفعنا لطرح المعضلة التي استثارت الكثيرين: هل حال الثقافة العربية الإسلامية بخير؟

الدين والدولة

المفهوم الذي يطرحه أدونيس أعمق من فكرة الدين والدولة وفصل الدين عن الدولة، فهذا أمر لا يدعو إليه لأنه يراه من الضروريات البدهية للحياة أن يتم الفصل، لكن أدونيس يرى الإسلام دعوة سامية دينية روحية، وفي مكان آخر قال كلاماً مهماً بأن الإسلامي كرسالة انتهى بموت النبي، وهذا كلام لا ينكره أحد، فبعد (اليوم أتممت عليكم نعمتي) وبموت النبي توقفت هذه الرسالة الدينية، وصارت محفوظة بما جاء فيها، ويرى أن الإسلام دين وليس دولة من حيث الكينونة، والإسلام لم يعمل على إنتاج دولة سياسية خاصة به، ويفرّق أدونيس بين سمو الدين ودنيوية الدولة، من دون أن يبعد إمكانية الاستفادة من الدين في تحديد الأطر.. لكن التطابق بين الإسلام والدولة مرفوض لأنه يخلق دولة دينية، أو يجعل الدين دولة، وهذا أمر لم يكن في الإسلام وليس له. وهذا الطرح قد يعارضه كثيرون، ويوافقه كثيرون، لكن النقاش هو الذي يصل إلى نتيجة ويسحب الذرائعية ممن يقول بأنه لا يستطيع أن يقول رأيه بصراحة!

ختاماً

إن ما استهجنه بعضهم ودفعهم لتبادل الرسائل الإلكترونية حول محاضرة أدونيس يدل على أمرين: الأول لم يتابعوا طروحات أدونيس الفكرية، فمنذ عقود طويلة لم يخرج أدونيس عن هذه الطروحات ولم يحد عنها.. وما جاء لا يشكل مفاجأة لمن قرأ أدونيس وفكره. الثاني يدعم رأي أدونيس ويؤكد أن الحالة الثقافية العربية والإسلامية الراهنة ليست بخير، فإذا كانت هذه الطروحات العادية والملامسة برفق للواقع رآها بعضهم فتحاً للنار، فما بالنا إذا كانت الطروحات أكثر جرأة وقوة وعمقاً؟ فلتتصارع الأفكار وليحتدم النقاش، لينتعش الحاضر الثقافي العربي الإسلامي، بالحوار والنقاش وحده نرتقي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن