ثقافة وفن

صباح فخري أسكرنا بخمرة النغم… على مال الشام وفي ظلال الياسمين

| إسماعيل مروة

مترعاً بخمرة الحب

وتحت ظلال الياسمين

وموشىً بكثير من الإجلال، تحوطه قدود حلب، تزفه الموشحات، ويتسابق الشعراء والمغنون والألحان للتعطر به يغادرنا الكبير صباح فخري، المبدع الذي لا يجارى، والمطرب الذي تجاوز الأنغام إلى الجوهر… عشق القدّ الميّاس فجعل القدّ الحلبي قدوداً وقلائد على جيد النغم، وتجاوز الغناء ليدخل في ملكوت الروح… أحبّ الشام، نادى على مالها، فأنعش أبا خليل القباني، وصحبه من كيوان إلى الربوة ليتغنيا معاً (يا مال الشام) وجعل من عمل القباني نشيداً وجدانياً، صاغه شآمي، وغنّاه حلبي، يتغنى به كل سوري، بل كل عربي، بل كل محب للشام وإنسانية الإنسان… ملك القلوب بالنغم الشجي.. فشدا للحب الذي يكوي الإنسان بمقدار ما يسعده.

صباح فخري اسم من نغم، بدأ نداءات الصلاة، وبقي يردد الأذان حباً، وإيماناً بالمنطلق والبداية، من نفثات الروح في آفاق غير محدودة عاد إلى القرار والجواب ليقول: نداء الله أكبر يتجاوز حدود النغم، ويصقل الصوت ويجوهر الروح..

صباح فخري اسم من سورية.. من انتماء ووطن، استلهم الوطن والدفاع عن ترابه، فشدا بنشيد يهزّ الوجدان..

سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسرّ الصديق
وإما ممات يغيظ العدا
ونفس الشريف لها غايتان
ورود المنايا ونيل المنى
مترعاً بحب الحياة
مشبعاً بالنغم والأصالة
عاشقاً للموشح والقدّ والدور والطقطوقة
هائماً بوطن أعطاه وأجزل في العطاء

يودعنا صباح فخري القيمة والقامة، وهو الذي حوّل النغم صوفية روح، وأسكر من سمع بإعجاز خمرة الحب.. يودعنا وهو القامة التي لن تتكرر، والتي جعلت الغناء عشقاً والنشوة ولهاً.

حزم صباح فخري أمره وقد شهد سلام سورية، واطمأن إلى قلعة حلب وأسواقها… صباح فخري القامة التي تجاوزت الممكن في حياتها.. كان جوابه دائماً: أنا أجتهد وقدمت ما لدي…

ويتعملق شيئاً فشيئاً، ويصعد سلّم مجد الروح، ليغادر وقد أبقى مواويله وآهاته شاهدة على عظمة الشخص والصوت وعلم النغم…

على غمامة جميلة ممطرة يسافر صباح فخري في رحلته الأخيرة، ووراءه إرث من المجد والفخر والأغنيات، تمشي وراءه على رؤوس الأصابع خشية أن توقظه في رحلته الأبدية…

ترى هل نعرف مقدار فخرنا بأننا عشنا معه وسمعناه والتقيناه؟

هل نعرف مقدار خسارة الوطن برحيل السيد المتربع على أصالة النغم؟

أبو خليل القباني.. عمر البطش.. مسكين الدارمي… وكثيرون يعدون العدة لاستقبال موكب صباح فخري…

ونحن نردد بأسى وحب:
قل للمليحة في الخمار الأسود
وداعاً صباح فخري… وأنت النغم والوتر والآلة والروح.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن