قضايا وآراء

رياح أميركية تذرو «وثيقة» السودان

| عبد المنعم علي عيسى

كانت ثماني دقائق، هي مدة البيان الذي تلاه رئيس «مجلس السيادة» السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان من على شاشة التلفزيون الحكومي في الـ25 من تشرين الأول المنصرم، كافية لتمزيق «شرعية التراضي» التي قامت عليها «الوثيقة الدستورية» وجرى الإعلان عن توقيعها بين «المجلس العسكري الانتقالي» وبين قوى «إعلان الحرية والتغيير» في شهر تموز من عام 2019 بوساطة إفريقية بعد نحو سبعة أشهر من الاحتجاجات التي عمت أرجاء السودان، وبعد أقل من ثلاثة أشهر على سقوط حكم الرئيس السابق عمر البشير الذي دام أكثر من ثلاثين عاماً.
قضت الوثيقة سابقة الذكر، بأن يتناوب طرفاها على تقاسم السلطة في مرحلة انتقالية تدوم لمدة 39 شهراً، على أن يعقبها إجراء انتخابات تكون خاتمة لتلك المرحلة، كما قضت بأن تكون البداية لحكم العسكر بمدة تصل إلى 21 شهراً كان يفترض أن تنتهي في شهر تشرين الثاني الجاري، فيما يتبقى للمدنيين حكم 18 شهراً تنتهي في شهر أيار من عام 2023، وللوهلة الأولى سارت الأمور في خلال الأشهر التسعة عشر المنصرمة وكأن الاتفاق يمتلك من الصلابة ما يكفي لدوامه واستمراره كقارب نجاة للسفينة السودانية التي ما انفكت الأمواج المتلاطمة تأخذها يمنة وشمالاً منذ نحو عقد أو يزيد من الزمن، أي منذ انفصال الجنوب عن الشمال صيف عام 2011، من دون أن يعني ذلك خلواً تاماً من «اهتراء» أصاب بعضاً من ذلك النسيج السياسي الذي استولدته «الوثيقة الدستورية» في غضون المرحلة سابقة الذكر، بل على العكس فقد أصيب الأخير بتهتكات عدة لعل أبرزها تلك الحاصلة ما بعد الإعلان عن تطبيع الخرطوم لعلاقاتها مع كيان الاحتلال في شهر تشرين الأول من العام الماضي، حيث سيؤدي الفعل إلى انقسام على ضفتين غير متعادلتين، لكن اللافت فيه أنه لم يكن من النوع الحاد مما كان يستدعيه إرث الخرطوم «عاصمة اللاءات الثلاث» التي اشتهرت بها قمتها التي عقدت فيها في أعقاب حرب حزيران 1967، فيما من المؤكد أن الرجحان فيهما كان يميل إلى كفة «أصحاب الإعلان» آنف الذكر، بعد أن استطاع هؤلاء التسويق لمقولة إن «مصلحة السودان فوق كل مصلحة»، وإنها تقتضي المضي قدماً في مسار كهذا.
لم تكن مصادفة أن يذهب عسكر السودان إلى ما ذهبوا إليه فجر الـ25 من شهر تشرين الأول المنصرم، فالتوقيت يقع على مبعدة شهر واحد من الاستحقاق الذي أقر بصيغة التراضي، بل لم تكن مصادفة أن يصبح التوتر سيد المشهد السياسي السوداني منذ شهر أيلول المنصرم الذي جرى الإعلان فيه عن إحباط الحكومة لمحاولة انقلاب عسكرية، والفعل من حيث النتيجة كان قد أدى إلى رفع درجة حرارة الشارع الذي راح يرسم إيقاعاته على وقع «الهمسات» التي تصدر عن طرفي الشراكة في الحكم، ليصل المشهد إلى الذروة ما بين 16 الشهر المنصرم الذي شهد تظاهرة في الخرطوم كان شعارها الأهم هو مطالبة البرهان القيام بانقلاب عسكري للسيطرة على البلاد، وبين 21 منه الذي شهد تظاهرة أخرى خرجت كدعم للحكومة الانتقالية، ليصل الاستقطاب عتبة أعلى يوم 24 من الشهر عينه عندما ذهب مؤيدو العسكر إلى قطع الطرقات والجسور على امتداد العاصمة.
من المؤكد أن تلك التظاهرات لم تكن هي العامل الحاسم في قرار البرهان الذي مضى فيه نحو إعلان انقلابه، فقرار الحسم كان قد اتخذ في أعقاب اللقاءات التي أجراها المبعوث الأميركي للقرن جيفري فيلتمان، وفي ختامها كان قد أدلى بتصريحات لم يكن من الصعب تبين «الضوء الأخضر الخافت» الذي ينوس من بين كلماتها، فيلتمان قال: إن حكومة بلاده «قلقة للغاية» من تقارير تشير إلى استيلاء الجيش على الحكومة السودانية، والمؤكد هو أن من أرسلت إليهم الإشارة كانوا قد قرؤوا جيداً المفردات التي استخدمها المبعوث الأميركي، فهو ذهب إلى توصيف ما جرى أو سيجري، لأن فيلتمان كان يتحدث قبيل ساعات من إذاعة بيان البرهان، على أنه «استيلاء» ولم يأت على استخدام مصطلح «انقلاب» وللأمر اعتبارات لا تخفى على «المذيع» الذي ذهب فجر اليوم التالي، مدعوماً بنائبه محمد حمدان دقلو قائد قوات التدخل السريع، إلى إعلان حل «مجلس السيادة»، ومعه الحكومة التي جرى اعتقال رئيسها عبد الله حمدوك جنباً إلى جنب مع عدد من الوزراء والسياسيين الداعمين له، قبيل أن يعلن أن «حكومة تكنوقراط» سيجري تشكيلها، وهي التي ستقوم بتسيير أمور البلاد إلى حين إجراء الانتخابات الموعودة.
لا شك في أن «صانع القرار السياسي للعسكر» كان قد شعر عند سماعه كلمات فيلتمان أن «أوان الحصاد» لزرع تموز 2019 قد حان، هذا إن لم يكن قد شعر بأن الوقت قد أزف على ذلك الزرع، وجل ما في الأمر هو أن واشنطن ترى أن مساراً كهذا سيمضي في طريقه الطبيعي إذا ما انفرد العسكر بدفة القيادة، إذ لطالما كان هؤلاء هم الذين سوقوا للنظريات السابقة التي مهدت لاتفاقيات التطبيع مع كيان الاحتلال.
وفق هذا المنظور فإن إسقاط حكومة عبد الله حمدوك المدعومة سعودياً ومصرياً، يشير إلى تراجع الثقلين سابقي الذكر أمام التمدد الإسرائيلي المسنود أميركياً، كما يشير إلى أن واشنطن تنظر إلى الأنظمة القائمة، واحتمالات حصول تغيير فيها، من منظار واحد لا غير، هو موقفها من اندماج هذا «السرطان» المسمى إسرائيل في المنطقة، كمقدمة لا بديل عنها لدخول الأخيرة عصراً يمكن أن يطلق عليه اسم العصر الإسرائيلي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن