كم هو صعب أن تعيشَ زمنَ العمالقة في أي مجالٍ إبداعي كان، وكم هو أشبهُ بالتربية الرصينة التي تَزين كل شيء بميزان الذهب عندما تكبر وتترعرع على إبداعاتهم، هنا لا تصبح اختياراتنا في مجالاتهم صعبة فحسب، لأننا أساساً تمسكنا بالأصل، لكن الأهم أن فقدهم يجعل الألمَ مضاعفاً، هل من طريقة نتوسل فيها العمالقة أن لا يرحلوا ويتركونا كالأيتام في هذا العالم المتوحش الذي بات فيهِ الإبداع أشبهَ بالمستحيلات السبعة؟
رحلَ صباح فخري، انتفضت وسائل الإعلام المحلية والعربية لتنعيهِ، كيفَ لا وهو شكَّل خلال عقودٍ، حالة استثنائية لا يمكن لها أن تتكرر، ليسَ لضعف ثقتنا بالإمكانات والمواهب، لكن لأن الزمنَ تغير، وإن كنا قادرين أن نجعل صوته يصدح من جديد، وسط قلعةِ حلب، أو في الأسواق القديمة العبقة بنكهةِ الغار والزعتر، فمن يُعيد لنا تلك الوجوه التي فقدنَاها وقد كانت تتمايل بـ«الرقصة العربية» لمجرد أن يبدأ «حج صباح» كلامه لـ«حادي العيس»؟
أما «الجواب الذي انتظرنا وصولهُ ليطمننا» بات اليوم بضعَ كلماتٍ أو اختصاراتٍ أفقدت العاشق حيوية العشق ورعشة الشوق، وصولاً إلى «خمرة الحب» التي طلبَ سقيَاها والتي قد تغادر بعد رحيلهِ شغاف القلب والروح لتمسي كؤوساً من الهلوثة الفنية يجترعها كل من «لمَّ لايكات» بفديوهات لا طعم لها ولا لون.
ماذا ستفعل «الروزانة» من بعده وهي منذ عقدٍ من الزمن تتوسلنا أن نبتعد عنها لأن حبها الذي فقدته في حلب بدا وكأنهُ خرج ولم يعد!
لكن ومع كل هذا السواد الذي يلف خبراً كرحيل أمير الإبداع العابر للحدود، وما ينتظره مستقبل هذا النوع من الغناء بعدَ رحيله هناك ثابتان في تراثهِ لا يمكن لهما أن يتزحزحا:
الثابت الأول هو «مال الشام»، فالشام التي غنّاها الراحل الكبير ستبقى تلكَ البقعة من الأرض التي تقفُ عندها كل الأبجديات، كلمة سر هذا الكون، ستبقى كالصبية المجنونة التي يسألها عُذالها المفتونون بجمالها: «مالك يا حلوة مالك»؟ ربما ستتحفظ الآن عن الجواب لكنه حكماً أبعد من مجردِ غرامٍ غير حالها، أو حزناً على من خلدها بحنجرته التي لا تموت، أو حتى تجار شعاراتٍ يتاجرون بحتمية، بقائها!
الثابت الثاني وهو «طريق حلب»، هذا الطريق الذي رسم لنا الراحل الكبير صورة له بحنجرته وجعلها عالقة في أذهاننا أينما حللنا، حيث نجد «زيتوناً» نخالَه طريق حلب، فالمدينة التي لا يمكن لها أن تخرج من بال من زارها، كيف لها أن تغادر تفكير من تربى فيها؟ ليس طريق حلب فحسب بل كل طرقات حلب، وكل من شرب من ماءِ حلب، سيبقى وفياً للراحل الكبير، لأنه جعلنا ببساطة نتذكر مدينتنا التي لا تنام أينَما حللنا بل ونتذكر كيف كنا ندير وجهنا خجلاً عندما كنا صغاراً ونحن نستمع مع العائلة لمقطع «طلب بوسة ما عطيتو»! ألهذا الحد تغلغلت كلماتك بأدق تفاصيل ذكرياتنا؟!
كل الكلمات تعجز عن رثاء تلكَ القامة الفنية والوطنية التي نعتز بها، ولعل خيرَ وفاءٍ لما قدمهُ خلال مسيرتهِ الطويلة العمل الجاد عبر الوزارات المعنية للحفاظ على هذا التراث العظيم، فتراث الراحل الكبير كما تراث كل مبدع هو ملك لكل من أحبه ونهل من إبداعه.
للفقيد الرحمة ولعائلتهِ الصغيرة والكبيرة على امتداد محبيه في هذا العالم الصبر والسلوان.