الصين: الحليف الصامت
د. بسام أبو عبد الله :
كلما زرت الصين تكتشف أشياء جديدة، وتتعلم أخرى من شعب عظيم وحضارة عريقة، والقضية لا تقتصر على الدقة في التنظيم، واحترام الوقت وحب العمل، وإنما في العقل الجمعي الذي يستند إليه الصينيون في تحقيق منجزات بلادهم الكبيرة التي ما من شك أنها تثير إعجاب الزائر.
ولأننا من المهتمين بالسياسة، والمتابعين لها، والمختصين بها فقد تركز اهتمامي على مواقف الصين في السياسة الخارجية، وخاصة تجاه ما يجري في بلدي سورية من عدوان إرهابي لم يسبق له مثيل من حيث تركيبته والقوى الإقليمية، والدولية المشاركة به، وتداعياته الكارثية على الشعب السوري نفسه، وعلى أمن واستقرار المنطقة، والعالم، وضمن محاضرة في معهد الدراسات الشرقية في جامعة شنغهاي حاولت أن أُقدم الرؤية السورية لحقيقة ما يجري، وأن أعرض لمقاومة الشعب السوري للفاشية الجديدة التي تلبس لبوس الدين الإسلامي والتي سبق للشعب الصيني أن واجه مثيلاً لها في الحرب العالمية الثانية أسوة بشعوب الاتحاد السوفييتي سابقاً، وشعوب أوروبا التي دفعت ثمناً باهظاً لهذا التطرف، وسياسات الهيمنة والقتل، والتدمير.
لقد شعرت بوجود تعاطف، وتفهم، وإدراك كبير لحقيقة ما تتعرض له سورية، وكذلك محبة للشعب السوري، والحضارة السورية، ورغبة في تعزيز تعلم اللغة العربية، والحضارة في الجامعات السورية وخاصة جامعة دمشق التي تحظى باحترام، وتقدير كبيرين، كما وددت لو رأيت أستاذاً سورياً ينقل للطلاب، والطالبات علوم اللغة العربية والثقافة العربية، وأرجو أن يتم ذلك مستقبلاً بين جامعات البلدين، فلم يكن هناك سوى أستاذ مصري موفد من الأزهر لتعزيز مهارات الطلاب اللغوية، وهو أمر يدل على قصور عربي كبير، وخاصة أن الصين توسعت في تعليم اللغة العربية في جامعاتها نظراً للحاجة الماسة إلى ذلك لتأهيل كوادرها الدبلوماسية، والاقتصادية، والثقافية إضافة لقطاع الأعمال، ونشاطات الشركات الصينية.
إن متابعة ودراسة السياسة الخارجية الصينية توصلانك إلى أنها مرت في عدة مراحل، لكن الطابع الأبرز لها كان الابتعاد عن الملفات الساخنة في العالم طوال عقود ثلاثة وأكثر لحساب الانكفاء للداخل والتركيز على بناء بنى الدولة الصينية الاقتصادية، والاجتماعية، وتعزيز دور الحزب الشيوعي الصيني في قيادة الدولة والمجتمع، ويؤشر هذا الاتجاه إلى مرحلة (الإصلاح والانفتاح) التي بدأتها القيادة الصينية أواخر ثمانينيات القرن الماضي مستندة في السياسة الخارجية إلى المبادئ الخمسة للتعايش السلمي التي أطلقها الزعيم الصيني (شو إن لاي) أواخر العام 1953، وهي:
– الاحترام المتبادل للسيادة.
– وحدة الأراضي.
– عدم الاعتداء، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
– المساواة والمنفعة المتبادلة.
– التعايش السلمي.
لهذا كنا نلاحظ أن الدبلوماسية الصينية استندت طوال مرحلة الحرب الباردة إلى مبدأ (الحياد السلمي) مرتكزاً أساسياً في السياسة الخارجية، وعلى الحوار، والعلاقات الطيبة مع الخارج لعالم آمن، وتنمية مستدامة، وهو ما كان يؤكده كبار القادة الصينيين عقوداً من الزمن.
ومع بدء الحرب على سورية- نهجت الصين سياسة خارجية أكثر تقدماً تجاه سلوكها السابق الذي اعتاده العالم، حيث فاجأت العالم باستخدامها مع موسكو حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لمنع إصدار قرارات من مجلس الأمن الدولي تشكل جسراً لتنفيذ أعمال عدوانية لاحقة ضد سورية، وشعبها، كما حصل الأمر في الحالة الليبية، حيث بدا واضحاً أن الغرب يريد استباحة وتغيير الأنظمة السياسية في المنطقة بما يحقق مصالحه الجيوسياسية، وهو ما بدأت بكين مع موسكو تنظر إليه بعين الشك، والريبة من أن سياسة كهذه سوف تهدد الأمن والسلم الدوليين، وستؤدي إلى فوضى عارمة تُضر بالمصالح الكبرى للصين، وترسي عالماً يقوم على الهيمنة، والاستعمار، واضطهاد الشعوب، وحقها في تقرير مصيرها.
– ظلت الصين تراقب الوضع في سورية، والمنطقة، وخاصة مع انكشاف مخاطر الإرهاب الدولي المتمثل في تنظيم داعش الإرهابي، وإخوته وتزايد أعداد الإرهابيين الأويغور الذين انضموا إلى داعش ومخاطر ذلك على الأمن القومي الصيني من خلال احتمال نقل هؤلاء لاحقاً إلى جمهوريات آسيا الوسطى، وأفغانستان المحاذية للحدود مع إقليم تشينجيانغ الذي يشكل منطلق مشروع طريق الحرير، وهو مشروع القيادة الصينية للسنوات العشر القادمة.
– لقد شكل موقف وزير الخارجية الصيني في 1/10/2015 في الاجتماع الخاص بمجلس الأمن الدولي حول سورية- نقلة نوعية حينما قال: (لا يمكن للعالم أن يسمح لنفسه بأن يبقى متفرجاً، ومكتوف الأيدي تجاه ما يجري في سورية، ويجب عليه ألا يتصرف بطريقة غير منطقية نحو ما يجري من أحداث تضرب الإنسانية في الصميم)، وهذا الموقف يؤشر بوضوح إلى وصول الصين إلى نقطة بدأت تستشعر فيها مخاطر انتشار الإرهاب على المنطقة، وأمنها القومي مستقبلاً.
– لقد ترافق كل ذلك مع وصول حاملة الطائرات الصينية (لياونينغ) إلى الشواطئ السورية، وإعلانها المرابطة هناك مدة شهر، وعلى الرغم من أن المصادر الصينية لم تتحدث كثيراً عن هذا الحدث، وأبقته بعيداً عن الأضواء، ولكن وصول البارجة الصينية وتزامنه مع بدء العمليات الجوية الروسية الداعمة للجيش العربي السوري ضد الإرهاب، يؤشر إلى حجم تنسيق ميداني بين الروس- والصينيين في هذه المعركة الجيوسياسية المهمة على الأرض السورية.
الحركة الصينية الدبلوماسية- العسكرية تترافق مع تنسيق صيني- روسي- إيراني على صعيد المنطقة، ومن خلال تعزيز العلاقات الثنائية في مختلف المجالات وخاصة أن الصين لعبت دوراً مهماً في تسوية الملف النووي الإيراني، ونزع فتيل حرب محتملة في الشرق الأوسط، وهو منهج يشكل ركيزة أساسية في التفاهمات الروسية- الصينية لبناء عالم متعدد الأقطاب.
لقد جاء التحرك الصيني مترافقاً مع خطاب مهم للرئيس الصيني (شي جي بينغ) أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث أعلن فيه أن عالماً متعدد الأقطاب قد نشأ ولا رجعة عنه، وأنه مهما تطور المشهد العالمي، ومهما أصبحت قوة الصين فإنها لن تسعى أبداً للهيمنة، والتوسع، وأن تحقيق الحلم الصيني غير ممكن من دون بيئة دولية سلمية، ونظام دولي مستقر، وتفاهم ودعم ومساعدة بقية دول العالم…
إن دور الصين الصاعد، والبارز على الصعيد العالمي، وخروجها من مرحلة الانكفاء الداخلي إلى مرحلة لعب دورٍ يتناسب مع حجمها الاقتصادي، والسياسي، والثقافي هو عامل مهم للدول النامية، وعلى رأسها سورية، وسوف يساعد مع روسيا، ودول البريكس في إرساء نظام دولي متعدد الأقطاب ينهي عصر الهيمنة الأمريكية التي أقر الرئيس باراك أوباما أنه انتهى لأنه لا إمكانية لدى أميركا بأن تبقى شرطي العالم، وهي المرحلة الأكثر كارثية في تاريخ العلاقات الدولية.
يبقى السؤال الأهم: ماذا نريد نحن من الصين، وهي الحليف الصامت الداعم لقضية الشعب السوري، ونضاله ضد الفاشية الجديدة، ومن أجل سورية مستقلة، سيدة، لأن ذلك يتناغم مع مبادئ السياسة الخارجية الصينية؟!!
الجواب: إن الأمر لا يرتبط فقط بما يريده الجانب الصيني من سورية، من مصالح ترتبط بأهمية سورية الجيوسياسية، وإنما ترتبط أيضاً بما نريده نحن، ويمكن هنا أن ألخص بعض الأفكار:
1- الاستفادة من التقدم الاقتصادي، والتكنولوجي الذي حققته الصين خلال مرحلة إعادة الإعمار من خلال وضع رؤية حكومية متكاملة تترجم عبر مشاريع يتفق عليها مع الجانب الصيني.
2- الاستفادة من نظام الإدارة الاقتصادية في الصين، وتجربتهم الرائدة من خلال توطين التكنولوجيا، وخاصة أن قيادات سورية كثيرة تحدثت في السنوات العشر الماضية عن التجربة الصينية دون أن نرى أثراً لذلك على الأرض!!!
3- يشكل البعد العلمي- الثقافي حاملاً أساسياً لهذه الرؤية إذ لابد من إيفاد أعداد كبيرة من الطلاب السوريين للجامعات الصينية في اختصاصات محددة مفيدة للرؤية السورية هذه، إضافة لتدعيم العلاقات الأكاديمية بين الجامعات، ومراكز البحوث في البلدين.
أنا متأكد من أن الإرادة السياسية متوافرة في سورية، ولكن لا يكفي الحديث عن التوجه شرقاً بل لابد من تحويل الشعار إلى واقع ملموس ومشاريع، وقرارات، كي نستفيد من العلاقات مع الصين العملاق القادم، والحليف الصامت.