ثقافة وفن

من ينتظر ومن لا ينتظر «2»

| إسماعيل مروة

بدأت بالجانب المؤسسي لأهميته، وأثني بلغة الانتظار في الجانب العقيدي لخطورته الكبيرة، فنحن وبعلمية وتجرد أمة مؤمنة وعقيدية، وهذا الأمر بحد ذاته أمر إيجابي لأن العقيدة السليمة والنيرة والمسالمة تجعل المجتمع أكثر تنظيماً وجمالاً وأمناً، وأنطلق من مفهوم أن العقيدة هي مجموعة القواعد والأنظمة التي تجعل الحياة أكثر تنظيماً وسلامة، ومن المفترض أن المجتمع الذي يملك هذه الأسس العقيدية يصل إلى مساحات لا تصلها المجتمعات الفوضوية التي لا تملكها، فهل يحدث ذلك حقاً؟! وهل استطعنا أن نرقى مع العقيدة، وليس بها، معها لأنها هي الرقي والعظمة والنبل؟ هل استوعبنا ما جاءت به هذه العقائد من أسس لتنظيم حياتنا؟

الدنيا سجن المؤمن! لو تساوي جناح بعوضة! وعبارات أخرى مماثلة مقتطعة من سياقها سمعتها من بعضهم مؤخراً! ويرددها علماؤنا ومشايخنا كثيراً، وفي كل مناسبة!
وكأن الدنيا رحلة عبثية! هي ليست كذلك؟، وهي حسب الفهم الصحيح الطريق للآخرة الطريق للحياة السرمدية الأبدية فهل يمكن أن تكون سجناً أو لا تساوي جناح بعوضة!
إن كانت هذه الدنيا بهذه الدرجة من الخسة والوضاعة والحقارة لم وجدت أصلاً؟! إن كانت للاختبار فالاختبار ليس تافهاً فبعده يحصل واحدنا على شهادة تؤهله لمرحلة أعلى! وإن كانت وضيعة فما جدوى أن يتنافس المتنافسون؟!
وعلى جناح بعوضة لِمَ يتنافس الناس؟! أسئلة كثيرة يمكن أن يطرحها واحدنا وهو يسمع هذا الكلام المقتطع من سياقه، وخاصة في مواسم الموت والرحيل ووداع الأحبة، وينسى الواعظ أن الراحل أفنى هذه الحياة باحثاً وساعياً للعلم والعمل والمال والجاه والمنصب، ولكن بعد أن انتهت رحلته يأتي الفاضل ليعدد لنا مساوئ الدنيا، ولو كانت الدنيا كذلك ما جاء إليها الرسل والمرسلون والرسالات!
وإن لم تكن الدنيا سوى مرحلة أولى للحياة السرمدية فإنها تستحق منا العناية أما ما يقف عنده علماء الدين ورجاله من وعظ، فإنما يقفون عنده بسبب الفهم المزاجي للدنيا والآخرة، وهذا الفهم جعل الحياة الدنيا ميداناً للتنافس غير الشريف الذي يطمع في آخرة وعفو إن كان مؤمناً بهذا المآل.
وذلك كله يخضع لفلسفة الانتظار، الانتظار لما هو غيبي وبعيد وغير مرئي، يقول الشاعر القروي رشيد سليم الخوري نثراً «أؤمن بالله إيماني بوجودي، ولن أحيد عن إيماني إلا إذا جائني من يقنعني أنني خلقت نفسي بنفسي» هذا الإيمان الفطري الذي لا يخضع للأيديولوجيا، ولا يقبل سفسطة وكلاماً إنشائياً هو كلام واقعي ومنطقي، ويعاكس فلسفة الانتظار، ولو قدم العلماء الأفاضل فهماً آخر، وقد لا يكون سليماً للحياة الدنيا والآخرة لانتهت فكرة الانتظار والجائزة وانتظار العفو! فأنا أحب الله لأنه الخالق الذي يستحق الشكر والعبادة وليس لما يعد لي من أشياء تنتظري وثواب وحور وأنهار عسل.. و.. و.. وكلها حقائق لا مراء فيها، وأنا أحب والديّ لأنهما يستحقان الحب، وأحب أخي الإنسان لأنه شريكي في حياة جليلة نحياها معاً.. لماذا لا نتسابق في الحياة الدنيا العظيمة من أجل الخير والنماء، ومن أجل الحب والعطاء والفكر؟
علينا ألا نمارس فلسفة الانتظار لأنها فلسفة كسل واتكال وطمع، وهذه الفلسفة التي ترتكز إلى ركائز رآها المفسرون والوعاظ، والتي يصعب على الإنسان أن يقول نقيضها لأنه يصبح مارقاً خارجاً عن القانون والشريعة، ويمكن أن يوصف بالإلحاد والكفر وما شابه.
المؤسسات الدينية عبر التاريخ وضعت مفهوماً آخر للدين وللحياة والآخرة، هذا المفهوم يخرج أصلاً من النص، لكنه يقدم فهماً له علاقة بمصلحة هذه المؤسسة ومصالح القائمين عليها، وهذه المؤسسة تصنع سياجها لنفسها بنفسها ومن الفقراء والأتباع الذين لا يقبلون أي نقاش في تنزيه القائمين على المؤسسة.
لماذا لا نطرح سؤالاً مهماً دوماً: أين المؤسسات الروحية مما يحدث للناس؟
أين هذه المؤسسات من الفقر والعوز والحاجة؟ لماذا يملكون حصانة تمنحهم إياها المؤسسات السياسية عبر التاريخ؟
هل سمعتم بأبناء المؤسسة الدينية يعانون فقراً وعوزاً؟
هل رأيتم أحد المتنفذين في هذه المؤسسات يقف رثّ الثياب ينتظر ما ينتظره الآخرون؟
يشبه في ذلك طبقة الحكام والمسؤولين الذين لا يعانون شيئاً، ولا يشعرون بآلام الآخرين، ولا ببرد الشتاء، والساسة يمنّون الإنسان بانتظار القادم والمؤسسة الدينية تعده بالآخرة على صبره! وكلا الطرفين لا يعيش أي نوع من أنواع الصبر للقادم!
وتمضي بنا الأيام من قهر إلى قهر.. ومن تعب إلى تعب.. ونحن نمارس ما طلبوه منا، وهم يستحلبون جناح البعوضة والدنيا الفانية عن آخر قطرة دون أن يسمحوا للبسطاء بنيل شيء منها، فالآخرة تنتظره..!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن