كشف الكيان الصهيوني مؤخراً عن أوراق وآراء كانت سرية لرئيس وزرائه الأسبق إسحاق رابين فحواها أن إسحق رابين توجه لعقد سلام مع العرب لأنه كان يعرف أن جيش الكيان لن يربح أي حرب من الممكن أن يخوضها مع العرب؛ إذ من المعروف أن الكيان الصهيوني يعتمد على تفوّقه في الطيران وعلى قدرته أن يدمّر ويقتل ويبث الرعب والهلع في النفوس، ولكن الذين يصمدون بعد هذه المرحلة الأولية كما صمد الجيش السوري في حرب أوكتوبر عام 1973 وكما صمدت المقاومة اللبنانية في العام 2006 وكما صمد الشعب الفلسطيني برمته في العدوان الصهيوني عام 2021، يعرفون أن الهزيمة حتمية لهذا الكيان الذي خلق في أذهان البعض وهم أسطورة «الجيش الذي لا يقهر».
ومنذ نشوء الحركة الصهيونية وحتى يومنا هذا اعتمدت هذه الحركة على ابتداع مفردات وسرديات بديلة عن الواقع وكرّست الجهد والترويج والأموال لتصوير هذه السرديات والمصطلحات وكأنها الواقع الذي لا يطاله الشك، واستطاعت بذلك أن تزرع كميات من الوهم تدفع أشخاصاً ودولاً إلى تبني وجهة نظرها أو حتى الإيمان بمشروعها رغم أن نظرة سريعة إلى الواقع المعاش على الأرض تثبت عكس ذلك تماماً. ولكن من هو الذي يريد أن يكرّس الوقت والجهد ليفرز الغث من السمين وليكتشف مقدار الوهم الذي يبيعونه للأجيال والمفارقة الصارخة التي تفصل هذا الوهم عن أي واقع نعيشه أو نعرفه أو نختبره؟
إحدى نتائج هذه المعادلة هي أن الإعلام الصهيوني على سبيل المثال لا الحصر ومن بعده الإعلام المتصهين أيضاً، يولي أهمية كبرى لعنوان المقال الرئيسي ومن ثمّ لعنوانه الفرعي أكثر بكثير من الأهمية التي يوليها لمضمون المقال، لأن الدراسات التي أجروها برهنت أن أكثر من سبعين بالمئة من الناس يقرؤون العناوين دون أن يستكملوها بقراءة النص، وكلّ من جرّب النشر في أي جريدة غربية وحتى عربية يعلم أن الصحفي الذي يجري اللقاء والذي هو خبير في الموضوع لا حقّ لديه في اختيار العنوان؛ فهذا العنوان يقرره رئيس التحرير فقط، وهذا المثال الواقعي والحقيقي يُري أنهم يعتمدون في إعلامهم على الدراسات والإحصاءات والعوامل النفسية وقياس النتائج وأن العملية مهنية وعلمية بامتياز.
من يراجع تاريخ الحركة الصهيونية يرى دون شك أنها اعتمدت على الترهيب أولاً وبث الرعب في نفوس الناس؛ من مجازر دير ياسين وتهجير الفلسطينيين القسري من قراهم وديارهم عام 1948 ومن ثم عام 1967. كما اعتمدت على اغتيال القيادات القادرة والصادقة، وعلى أسلوب الغدر وشراء الذمم والنفوس من الجانب الآخر معتمدة في ذلك أيضاً على صناعة الوهم ونشره بكل السبل، واتباع الوسائل المقنعة النفسية والعلمية في الترويج له. كما اعتمدت في كل مشروعها على إستراتيجية واضحة وبسيطة وهي عدم السماح للطرف العربي برص صفوفه وتوحيد مواقفه لأنه من البديهي أن اتفاق العرب على أي إستراتيجية في وجه هذا الكيان ستكون نتيجتها لصالح العرب حكماً، وهنا اعتمدت الطابور الخامس داخل البلدان العربية كي يقف حائلاً دون توحيد الصفوف لأسباب لا تمتّ للانتماء ولا للتفكير الإستراتيجي ولا للمصلحة الوطنية العليا بصلة.
وبعد وهم القوة هذا وفي أعقاب حرب تشرين 1973 بدأ الكيان الصهيوني بالترويج لوهم التطبيع وبأن الدول التي تطبّع علاقاتها مع الكيان وتقبل به كجزء طبيعي من منطقة الشرق الأوسط سوف تفتح لها واشنطن أبواب القوة وخزائن الأرض، وسوف يشهد شعبها السعادة والرخاء وتستفيد من التقدم العلمي المفترض لهذا الكيان في الزراعة والصناعة والتقانة وإلى آخر ما فاضت به مخيلتهم من الأكاذيب والأوهام، وطبعاً كان الرئيس المصري الراحل أنور السادات أول من سار ببلاده في هذا المسار ومن بعدها تبعته بعض القيادات الفلسطينية والعربية للأسف.
واليوم لا يحتاج المرء إلى كثير من العناء كي يجري مقارنة بين مكانة مصر على سبيل المثال قبل التطبيع مع الكيان الصهيوني ومكانتها اليوم، وحتى بين قدرة مصر على الإنتاج الزراعي على سبيل المثال قبل التطبيع وبين قدرتها اليوم، والأمر ذاته ينسحب على القضية الفلسطينية التي كانت في أوج تألقها ومركزيتها على الساحة الدولية قبل اتفاق أوسلو الذي أقنعت إسرائيل من خلاله عشرات الدول لتطبيع العلاقات معها ولم تنفذ منه أي بند يعود على الشعب الفلسطيني بالخير والفائدة، وكبلته بهذا الاتفاق بالإضافة إلى أنه مكبل بكل شروط الاحتلال الصهيوني البغيض.
الغريب في الأمر أنه وبعد عقود على تجربة مصر والأردن والفلسطينيين مع وهم التطبيع يتمكن هذا الكيان من تسويق بضاعته الفاسدة مرة أخرى في دول عربية مركزية وقوية وهامة في تاريخها العروبي والقومي كالسودان مثلاً، واعداً الشعب السوداني مستقبلاً نوعياً وكأن العلاقة مع هذا الكيان كالسحر تقلب السواد إلى بياض والفقر إلى غنى ورفاهية، وها نحن نشهد اليوم تقسيم وتفتيت السودان بقوى خارجية وداخلية طامعة في ثرواته الهائلة ونهب مقدراته؛ تماماً كما فعلت الشركات الغربية في مناجم الذهب الإفريقية إذ أفرغت هذه المناجم في حين بقي أبناء القرى القائمة على هذه المناجم في فقر وعوز أبديين.
والسؤال المحيّر هو: كيف يمكن أن يقتنع أحد أن العلاقة مع خصم وجودي يمكن أن تعود بالخير على الطرف المخاصم؟ وكيف يمكن أن يقتنع أحد أن التطبيع مع عدو يمكن أن يعود بالفائدة على البلدان التي يجب أن ترى أن مستقبلها الوحيد يكمن في محاربة وهزيمة هذا العدو والانتصار التاريخي عليه مرة وإلى الأبد؟!
أين يكمن الخلل إذاً؟ لا شك أن العدو كما ذكرنا قد كرّس الموارد الهائلة لخلق وهم القوّة ووهم التطبيع في أذهان العرب الذين يناصبونه العداء تاريخياً، واليوم يكرّس الجهود الحثيثة لخلق وهم الأخوة الإنسانية من خلال المسار الإبراهيمي والذي يهدد خصوصيتنا وانتماءنا الحضاري وثقافتنا وحتى حقنا في هذه الأرض، فماذا نحن فاعلون؟ هل نستمر في اجترار الأوهام أو التقليل من حجم أخطارها والكسل في مواجهتها مواجهة علمية فكرية معرفية عميقة وشاملة؟
لقد أثبت تاريخ هذا الصراع مع العدو أنه صراع وجود وليس صراع حدود وأن المعرفة الإستراتيجية العميقة والشاملة وامتلاك الأدوات المعرفية أمر لابدّ منه لتفكيك الأوهام التي يزرعها الأعداء وإرساء القواعد الثابتة لعناصر قوتنا وتوجهاتنا المستقبلية وألا نكون عرضة لاختراقاتهم فيما يخص عناصر قوتنا من قومية عربية، إلى عيش مشترك، إلى مقاومة نبيلة وحاسمة لا تساوم ولا تهادن، إلى الاهتمام بالكرامات من أصغرها إلى أكبرها وعدم المساومة على أي منها مهما بلغ الثمن لأن التساهل في دفع الأثمان الصغيرة ينتهي بكلفة أثمان كبيرة لا تحمد عقباها ولا يمكن التحكم بحجمها ومداها بعد حين.
لقد حان للعرب جميعاً بعد سبعين عاماً من التجارب والمعارك والاستكشافات والاستنتاجات من هذا العدو وحلفائه أن يتحرروا كلياً من أوهام القوة التي لا تقهر وأوهام مزايا التطبيع التي يزرعها الأعداء لهم وأن يقتنعوا أن الطريق الوحيد لمستقبلهم هو امتلاك عناصر القوة الذاتية وأن يؤمنوا بالحكمة الإستراتيجية للرئيس حافظ الأسد أن «كل ما يوحدنا هو صحيح وكل ما يفرقنا هو خطأ».