أبدأ بسؤال: كيف نفكر نحن العرب؟ هل نفكر واقعياً في حاضرنا كي ننتقل إلى المستقبل؟ أم إن تعلقنا بالماضي يمنعنا من إحداث أي تطور بنيوي حقيقي معتمدين على الصورة، من دون تحليل للمضمون؟
ماذا تعني لنا فكرة الحداثة التي طورها الغرب المنتج الرئيس لها؟ فقد اعتمدها كأسلوب حياة وقاعدة انطلاق للبناء المادي، أنجب تكنولوجيا تذهل مجتمعاته، قبل أن تبهر باقي المجتمعات.
ما أسـس الحداثة؟ ولماذا لم تقدر المجتمعات العربية على الأخذ بها والبناء من خلالها؟ هل السبب المشروع الديني الإسلامي المتشدد والمتعصب والممتلك لكثير من المعتقدات الخاطئة، التي لم يعمل حتى اللحظة على إصلاحها؟ أليس العقل الإنساني متفاعلاً مع الواقع، يتأثر ويؤثر، يبدع ويولد أفكاراً ما دام أنه حيٌّ؟ هل تتحمل الحداثة كل ما يحل بنا من مصائب؟ أم يتحمل الفكر الديني المسكون في أعماق سواد شعوبنا، وادعاء سوادنا بأننا حداثيون، وما أن نصل إلى لحظة المواجهة حتى ينتفض ما بالداخل، ليقاوم أيّ تطوّر؟ ألا نستخدم كل ما أنتجته الحداثة العالمية في حياتنا اليومية أفراداً ومجتمعات ودولاً؟ ألم نتعلم فنون الحياة من هذه الحداثة؟ كيف بنا نتعامل معها من دون قلق أو خوف، ومن ثم نحاربها فكراً؟ ألا يجب أن ندرسها بشكل منطقي عقلاني، فنأخذ منها الإيجابي، ونرفض السلبي؟
في حوار مع بروفيسور ألماني قال لي: نحن نأخذ ما نريد منكم، فخذوا أنتم ما تريدون منا، ولكن من دون اعتراض على ما لا تريدون. تأملت وتفكرت كثيراً فيما جرى، وصارحت ذاتي بأننا فعلاً مجتمعات ناقلة ناقدة معترضة، والسبب الدائم المسكون الماضوي في داخلنا. هل من مفكر عربي أيّد الحداثة؟ أم إن الجميع قام بنقدها وتشريحها رغم أن جميعهم درس في جامعاتها، ونهل من علومها، والكلُّ يدعي أن لديه مشروعاً نهضوياً عربياً؟
مئات الكتب وآلاف المقالات، كلها تناولت نقد الحداثة، ولم يتقدم حتى اللحظة أحدٌ كي يقدم مشروعاً نهضوياً حقيقياً، ومن اجتهد في ذلك ذرَتْه الرياح، أو أسكن في الأدراج.
لماذا أؤكد أن الماضوية التي أجهضت المشروع القومي العربي والمشروع العروبي العلمي العلماني من جوهره كانت ومازالت السبب الرئيس في استمرار التخلف بدل التقدم؟ هل ننهض بنقد الآخر أم ببناء فكر نهضوي حقيقي ننقد فيه عيوبنا قبل نقد إبداع الآخر؟ إن كان في الآخر، إن كان في الغرب، أم في الشرق، في الشمال أو في الجنوب؟
وإذا كنا ننادي بمشروع نهضوي حضاري، يتوافق مع بنائنا العربي من أجل إعلاء شأن صيغتنا وصبغتنا، فهذا يعني أن نتجه سريعاً لتكوين مفاهيم في الجمال، إبداع في العمارة والنحت والموسيقا والرسم، إبداع في فهم ثقافة الشراء والكساء والحركة والمسير، التزام في القوانين الاجتماعية والاقتصادية، التزام في التخصّص الذي يؤدي إلى الإبداع، التزام في الحياة وللحياة، لا تأجيل ولا اتكال.
الحداثة مادة، هذه هي حقيقتها، والإنسان مادة وروح، لا يقدر على إنكار هذه الأفكار، والحياة مادة، لذلك نحتاجها، وعندما أعود للقول: إن العرب نقلوا كل منتجات الحداثة، لبسوها وأكلوها وعملوا بأدواتها، إلا أن فكرهم الماضوي اختبأ تحتها وبينها، وأهم ما يجب أن يكون في داخلها هو الفكر القابل للتطور والفاعل الحقيقي على إحداثه.
هنا أتوقف مرة ثانية وثالثة، وأسأل: كيف يفكر الشباب العربي في واقعه؟ وكيف به يبحث عن المستقبل؟ هذا الشباب اللا متفائل والمنقسم مذهبياً وطائفياً وقبلياً ومناطقياً، وأهم من كل ذلك منحصرٌ جغرافياً في أقطارها، أجيال محبطة ورؤاها مثيرة للقلق، ولا مستقبل لمجتمع أو لأمة من دون أجيالها الصاعدة، هذه الأجيال التي لا يمتلك سوادها إلا مشروعين؛ الذهاب إلى التديّن أو الهروب إلى الهجرة، حيث الحداثة المادة توفر لهم بعضاً من أحلامهم. فمسؤولية من الإجابة عن ذلك المشروع الديني الأكثر سيطرة على العقل العربي أو المشاريع الأيديولوجية والسياسية التي تتناهبها الظلال، ما إن يصيبها بعضٌ من نجاح؟