استغل ذوو الرؤوس الحامية من المكون الكردي، وأصحاب المشروع الانفصالي عن الوطن الأم سورية بعد بداية الأحداث بفترة، وتحديداً منذ بدايات ٢٠١٤، واستطاعوا بفضل التغيرات التي حدثت في الجغرافيا السورية بسبب تمدد المجموعات الإرهابية في العديد من مناطق تلك الخريطة أن يأخذوا مكانا لهم، وخاصة بعد أن بدؤوا يتلقون الدعم من الاحتلال الأميركي منذ شباط ٢٠١٦، لتبدأ فكرة بناء «دولة كردية» تنتعش في أذهان البعض الكردي، ليتم إلباس الهيكل العسكري لما يسمى ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية- قسد» لحماً كان قد أطلق عليه اسم «الإدارة الذاتية» الكردية الانفصالية.
بين تشرين الأول 2015 تاريخ إعلان تأسيس ميليشيات «قسد» والذي ترافق مع وهن الدولة السورية، واليوم عام 2021، تعافت دمشق واستعاد الجيش العربي السوري السيطرة على الغالبية العظمى من المناطق التي دنسها الإرهاب، مع استمرار تكشير المحتل التركي عن أنيابه بهدف احتلال مناطق جديدة من الأراضي السورية، والتهديد باستهداف ميليشيات «قسد» تحديداً، وكل هذه المتغيرات مقاربات جديدة وحقائق مختلفة، عما كانت عليه الأمور في بداية الحرب الإرهابية على سورية، مقاربات تؤكد أن البقاء والديمومة ليس لمن يولد من رحم الأزمات ويعيش بكنف اللصوص والمحتلين، بل البقاء لمن جذوره ضاربة في عمق التاريخ آلاف السنين، ويعيش ويقوى بدعم أبنائه، وحقائق تثبت أن البقاء ليس لمن يسرق قطعة من الأرض مستغلاً رسم الآخرين لخرائط الجغرافيا، بل البقاء لمن يرسم الخرائط، ويحدد حدودها في أرض الميدان.
اليوم ومع تحسس أصحاب الرؤوس الحامية لرؤوسهم مع جملة المتغيرات الدولية إزاء سورية، وانتفاء مصلحة الآخرين في استمرار دعمهم لميليشيات «قسد» أو لأي جهة بخلاف الحكومة السورية، كل هذا دفع «الكرد» إلى البحث مجدداً عن جسور يمكن مدها مع دمشق فكانت الوجهة موسكو، أي إلى حليف دمشق، للبحث عن وساطة لبدء الحوار مع الحكومة السورية، بل للذهاب أبعد من آلية الحوار، الأمر الذي أكده مصدر كردي مقرب من ميليشيات «قسد» بإفصاحه أن رئيسة الهيئة التنفيذية لـما يسمى «مجلس سورية الديمقراطية- مسد» إلهام أحمد، ذهبت إلى موسكو لبحث آلية الحوار المحتمل مع دمشق، وبالتحديد الحوار حول آلية جديدة لانتشار المزيد من قوات الجيش العربي السوري وتسليم نقاط تقع عند خطوط التماس مع قوات الاحتلال التركي في محافظات حلب والرقة والحسكة، وفي المقابل، لهجة تودد من دمشق طغت على مجمل تصريحات المكون الكردي وعلى مختلف انتماءاتهم الحزبية تقريباً، ليصدر الترحيب ذاته بالحوار مع دمشق مما يسمى «الحزب الديمقراطي التقدمي» والرئيس المشترك لـ«مسد» رياض درار.
ثمة سؤال بسيط يقف وراء تسارع الأحداث إزاء تقارب «الإدارة» الكردية مع دمشق في هذه الأيام، لماذا الآن، وما السبب؟ أهو عن قناعة بفكرة الدولة الوطنية عوضاً عن الدولة القومية؟ في الجواب البسيط أن ثمة عوامل وضغوط كثيرة دفعت بـ«الكرد» إلى سلوك طريق موسكو من أجل الجلوس على طاولة الحوار في دمشق، في الظاهر يتقدم تهديد النظام التركي بشن عدوان على مناطق ومواقع سيطرة ميليشيات «قسد» الأسباب العامة، وبأن الاحتماء بعلم الأم سورية، والتخندق خلف جنود الجيش العربي السوري في مناطق التماس مع قوات الاحتلال التركي يشكل غطاء وحماية لميليشيات «قسد» وجميع الميليشيات المنضوية تحت إمرته، إلا أن الحقيقة لا تكمن في هذا السبب فقط، فكما يوجد رؤوس حامية في المكون «الكردي»، هناك عقول تقرأ الأمور والواقع بشكل صحيح، لتكتشف أن «الإدارة الذاتية»، لم تعد الطفل الأميركي المدلل، وليست أولوية على الأجندة الأميركية الجديدة، وأن الاستمرار في «ركوب رأسها» سيجعلها خارج المشهد العام برمته، وما حدث في جرابلس عفرين وتل أبيض، شاهد أمام أعينهم، واحتمالية تكراره في مناطق أخرى، محتمل الحدوث إذا ما استمر الكرد في عنادهم.
ثمة أسباب كثيرة رئيسة وإستراتيجية وراء الهرولة الكردية للحاق بالقطار الذاهب إلى دمشق، أهمها تغير المزاج الأميركي إزاء دمشق، حيث نقلت صحيفة «POLITICO» الأميركية قبل حين، عن أحد كبار مسؤولي إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، أن الوجود الأميركي في سورية لتقديم الدعم والمشورة لميليشيات «قسد» ضد تنظيم داعش الإرهابي فقط، ما يشي بأنه ليس من مهام تلك القوات حماية النفط السوري المسروق أو أي أهداف «كردية» أخرى، خاصة بعد تبدل الرؤى الأميركية للسياسة في المنطقة بعد انسحابها من أفغانستان، وانتهاج سياسة التخلي عن القضايا الإشكالية والتخفيف من المواضيع المتعبة، إضافة إلى إدراك ميليشيات «قسد» أن التفاهم الروسي الأميركي إزاء سورية جعل الملف السوري في عهدة موسكو، وهو ما تعكسه دائما لقاءات مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي بريت ماكغورك، ونائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فرشينين، والمبعوث الرئاسي ألكسندر لافرنتييف، والتي ستجمعهم جلسة حوار رسمية عن سورية في جنيف الأسبوع المقبل الأمر الذي قد يشكل مناسبة لاختبار احتمالات الدفع لحوار سياسي بين «الكرد» ودمشق.
تدرك القيادات الكردية أن هبوط طائرة إلهام أحمد في مطار دمشق قادمة من موسكو، سيكون بمنزلة إعلان رسمي لفشل العدوان التركي على أي شبر من الأراضي السورية، وبأن الضوء الأخضر الروسي الأميركي الذي ينتظره رئيس النظام التركي رجب أردوغان للبدء بعدوانه، لن يضاء أبداً، وقبل كل هذا وذاك تدرك تلك القيادات، كما يدرك الجميع بأن مربط الخيل دوما دمشق.