ثقافة وفن

زهير جبور يودعنا بعد «ساعتان.. ساحتان» … «لم يمت الرجل الذي داهمه مرض الانتباه» من جنوب سورية إلى شمالها رحلة عمر وأدب وحياة

| سارة سلامة

بعد مشوار طويل في الكتابة والأدب والإبداع، وحياة مليئة بالتحدي وتحقيق الذات، واسم محفوف بالشغف والتحدي رحل عن عالمنا الأديب زهير جبور إثر حادث سير عن عمر ناهز الـ73 عاماً.

والراحل جبور الذي ولد في القنيطرة عام 1948 أديب وقاص وروائي وصحفي ساهم في تأسيس العديد من الصحف والمجلات الأدبية في سورية وعمل كمعد للعديد من البرامج التلفزيونية.

وشغل عدة مناصب ثقافية وإعلامية حيث كان رئيساً لفرع اتحاد الكتاب العرب في اللاذقية ورئيساً لفرع اتحاد الصحفيين في محافظتي اللاذقية وطرطوس كما كان مديراً لمكتب صحيفة البعث وتميز بحضوره الفاعل في الفعاليات الأدبية والثقافية السورية والعربية.

ووصف اتحاد الكتاب العرب الراحل بالمبدع الذي قضى عمره في العطاء الثقافي من خلال أغلب الأجناس الأدبية وعبر اندفاعه للعمل وتعاونه مع كل زملائه وأصدقائه بعد تقديم كثير من الكتب الثقافية والمؤلفات الأدبية.

مسيرة حافلة

وكان جبّور قد عاد إلى الأضواء مرّةً أخرى، في العام ٢٠٢٠ من خلال روايته الأخيرة «ساعتان.. ساحتان»، مسلطاً الضّوء فيها على التركيبة الاجتماعيّة المعقّدة للمجتمع السّوري، من خلال حقبة الأربعينيات لمدينة داخليّة في سورية، هي مدينة حمص.

وللأديب العديد من المؤلفات الأدبية في القصة والرواية والمقالة منها المجموعات القصصية (الحلم مرة أخرى -والورد الآن والسكين -والوقت وحصار الزمن الأخير -ورذاذ المطر – ذبحنا الطيور وهي تغرد – أزرار مقطوعة) وعدد من الروايات منها «مياه آسنة من أجل الإسفنج» و«موسيقا الرقاد» بالإضافة للدراسات مثل (آكافي) والمقالات (ويحيكون زهراً لموتنا).

وحظي الراحل بالعديد من التكريمات والجوائز عن أعماله الإبداعية منها جائزة الجولان وشهادة تقدير من مهرجان عبد السلام العجيلي وتقدير من اتحاد الصحفيين وشهادة رابطة أبناء بيروت وشهادة المجلس الأعلى للعلوم في سورية وشهادة تقدير من اتحاد الكتاب العرب.

لون البحر الميت

وفي لمحة قمنا بها لتقديم نماذج من أعمال الكاتب سنسرد مقتطفات من عدة إصدارات له والبداية من كتاب» الرغبة.. ولون البحر الميت» حيث جاء فيه: «عبرت نشرات الأنباء وأوراق النعي دون أن تترك فيّ إنفعالاً يذكر، فشربت قهوة، واستمعت إلى الموسيقا وبعض الأغنيات، ولم أتعرض منذ الصباح لأية دهشة.

حزنت بعد الظهر، وضحكت كثيراً لخبر عممته وكالات الأنباء عن حالة فرح جماعي داهم سكان إحدى القرى، فراحوا يغنون ويرقصون، ويدقون الطبول دون سبب، وعندما طالت الحالة، أرسلت منظمة الصحة بعثة لتحليل الظاهرة.

رغبت لو أنني مع سكان القرية في هستيريا فرحهم كما سمته الأنباء.

تشير الساعة إلى الخامسة مساءً، الحرارة مرتفعة يتصبب العرق من جسدي بغزارة، والبحر بلونه الأزرق وركوده الكسول يبدو كالميت، أكرهه في شكله المقيت هذا.

ينبغي أن أهرب فالملل قاتل.

أوقفت عربة عامة.

– إلى أين ترغب؟

أعجبتني ترغب، فرغبت باستحضار أشكال ساعات يدي التي استعملتها سابقاً، وقدرت أن أفضلهن كانت تشير إلى السابعة وهي في الواقع العاشرة وإذا ما وصلت إلى الثالثة تتوقف.

ضحكت، وأنا مستمر في حزني، وخبر الفرح المباغت معي، قال مذياع العربة إن ثمة موجزاً للأنباء قد حل زمنه فتململت كمن يستعد للإصغاء، وكنت أكذب في تململي وتنبه سائق العربه لشيء ما لم يقدره، ولم يستطع اكتشافه. فاكتفى بنظرة سريعة، ثم هز رأسه وقرر أنني مجنون أو هكذا أوحي إليه».

حين بكت نوال

وفي كتابه «حين بكت نوال» يستعرض جبور مدخل البكاء قائلا: «لنوال نكهة خاصة، تنسجم وطبيعة إعلانات الشاشة الصغيرة، ولشعر نوال الفحمي جاذبية تشع لتبهر ببساطة، هذه هي نوال التي بكت ذات يوم.

كانت ترغب بالعمل كمذيعة للتلفاز لكونها تمتلك المقومات الفعلية لمثل هذا العمل.

تقرأ، تضحك، تتقن فن إثارة الدهشة، وكانت تتابع نشرات الأنباء، وتفرح حين تشاهد الأوسمة وهي تزين صدور القادة الذين حققوا للبلاد تفوقها.

تقول نوال بغبطة.

– هذه الأوسمة سياج النرجس، ما أحلى بريقها وكانت تعتز بصورة تزين غرفتها، صورة لجنود التفوا حول دبابة وهم بثياب القتال.

كانت نوال تحدق في الصورة فتراهم يتطلعون صوب الأفق بابتسامات واثقة ورؤوس شامخة ونظرات متوثبة، وطن وخضرة وأوسمة براقة.

تفتح نوال ذراعيها لتعانق الشمس، فتبدو كفراشة ربيع أخذت من الألوان وراحت تتقافز بين وردة وأخرى.

تقول:- ما أروع الحياة في نبض الوطن، أنت تحياه، وهو يحيا فيك وأنتما تنشدان أغنية الأمل وسياج النرجس البراق يبعث الطمأنينة.

يا لصدورهم المزينة بأوسمة المجد.

– البداية.

– نعم سيدي أنا نوال.

رفعت شعرها الفحمي، جعلته يتدلى على ظهرها، فبدا قصيدة شعر مسكوبة بأنامل شاعر، أكثر من الصور الرائعة. ونشرت تلك الجاذبية التي تعبق لتجذب الكائنات من خلال سحرها العجيب.

ارتبك الرجل الضخم، واستيقظ بداخله حس الإنسان الذي فقده منذ زمن بعيد.

– تعالي معنا.

سارت معهم، دخلت أقبية وهي تضحك، ثم ممرات ضيقة وهي تضحك.

-ما أروع الحياة في وطن تحياه ويحيا فيك، وسياج النرجس البراق يزين صدور المجد.

– المكان.

سألت نوال المرأة التي تشاركها ضيق المكان ورائحة العفونة:

لماذا حزنك؟

ردت الأخرى بصوت واهن في طريقه إلى الموت.

– فيما بعد تعرفين!

ضحكت نوال، ولم تكترث برد المرأة التي تجهل معنى وجودها في مكان جليل وقوركهذا، ستوضح لها الأمر، وتابعت ضحكتها.

قدرت المرأة أن الفتاة مجنونة، فهزت رأسها عدة هزات متتالية كتعبير عن الأسف، وكانت نوال ما تزال تضحك.

انتباه

وفي إصدار «انتباه»، يبدأ في الملاحظة رقم (1) لشاهد عيان قائلا: «لم يمت الرجل الذي داهمه مرض الانتباه، وبعد الحادث فقد مجموعة من الحواس دفعة واحدة، وفي الملاحظة رقم (2) للزوجة: قررت ترك خيوط العنكبوت، نظراً لقناعتي بعدم جدوى إزالتها.

بينما الملاحظة رقم (3) للكاتب: أن لوحظ بعض التشابه بين القصة وحالات واقعية، فالرجاء المعذرة لعدم القصد.

وإليكم ما حدث بالصيغة التي وجدتها مناسبة للسرد.

التقطت نظراتي لون باب بيتي الباهت وأطرافه المتآكلة بشكل يثير التقزز، ثم انتقلت إلى زاوية الجدار وأشرت بإصبعي.

– ما هذا؟

ردت زوجتي بعصبية:

-خيوط عنكبوت، إزالتها سهلة.

قدرت أن الخيوط قد رافقتنا حياتنا الزوجية منذ بدايتها.

قالت:

– ثمة أشياء مهمة لا تثر انتباهك.

أحسست أن وجه المتحدث غريب عني، كأني أراه للمرة الأولى، فرحت أدقق بالنظارة السميكة ولون البشرة الذي يشبه لون الباب، وأثناء الطعام رأيتها تفتح فمها على اتساعه وتقذف بداخله كمية من الأكل، مصدرة أصواتاً ليست متناسقة.

قال ابني الصغير:

– لماذا لا تأكل يا بابا؟

قلت:

– كل أنت يا حبيبي.

أنا والآخر، والشيب غطى الشعر، وأخاديد الزمن المحفورة في الوجه الذي أراه ضمن هذه المساحة الصغيرة من العالم كل يوم، فما الغرابة؟

وكي أبدد النزعة الجنونية التي سيطرت عليّ أدرت مؤشر المذياع، أنباء الكرة الأرضية، الطقس.

وتابعت الحلاقة فسقطت الآلة الحادة من يدي وجرحت. صرخت:

– مستحيل. يكذب المذياع.

لم أصدق لأنني أهتم بالأخبار منذ أن كان المتوفى يستمع إليها، وكانت تشدني أنباء الحرب رغم صغر سني (أعلنت دقات بكبن الساعة…

يقول المصريون إنهم لن يسمحوا بعبور القناة، وأن نهر الأردن لن يتحول).

ويرحل أديب آخر من أدباء سورية بعد أن عمل في المضمار العام، فكتب المقالة والدراسات، وكان على تواصل مع الصحافة والظهور، لم يكتف بالجانب القصصي والروائي، بل كان إعلامياً أديباً في كثير من مفاصل كتابته، وقدّم جهوداً مميزة كثيرة، من الشمال إلى الجنوب رحلة، وفي الجنوب ولد زهير جبور ليقطع المسافة مشياً على الأقدام والحرف ليعود حيث المنطلق، وهناك يعانق أبديته ويرحل بين أحبابه وأسرته.. العزاء للكتاب والحرف، وللكتّاب، ولأسرته، و لروحه الطيبة التي عُرف بها السلام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن