حين يعلن المسؤولون في الإدارة الأميركية أن انفتاح بعض الدول العربية، مثل الإمارات على سبيل المثال على سورية، يثير قلقاً في الولايات المتحدة لأن إدارة الرئيس جو بايدين لا ترغب بتطبيع علاقاتها مع الحكومة السورية في هذه الظروف، فإن هذا التصريح يعني بوضوح أن واشنطن لم تتدخل في شؤون سورية وحدها فقط بل وفي شؤون نفس الدول الصديقة أو الحليفة لها، التي تجد مصلحة لها باستعادة علاقاتها مع سورية والانفتاح عليها بعد كل ما جرى في السنوات العشر الماضية ضد سورية من عدد من دول المنطقة والعالم، فالولايات المتحدة لم تستطع منع دول عديدة من المحافظة على علاقاتها مع سورية أثناء تلك الأزمة، بل لم تستطع إيقاف تأييد دول كثيرة للقيادة السورية وتقديم الدعم والمساعدات لها، والولايات المتحدة ليس بمقدورها منع الدول من اتخاذ سياسات مستقلة تخدم مصالح شعوبها ومنطقتها ولا تعد كل سياسة مستقلة لمثل هذه الدول الصديقة للولايات المتحدة إجراء معادياً لها يستوجب مقاطعتها في عالم متنوع في أنظمة حكمه ومصالح دوله بل في تناقضاته.
لا شك بأن استعراض سجل السياسات الأميركية منذ ثلاثين سنة وأشكال تدخلها العسكري وغير العسكري، لا يشير إلى أي دور يخدم مصالح دول العالم بل كان من المستغرب أن تسمح إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لدول متحالفة معها في الخليج بمقاطعة قطر وفرض الحصار عليها وهي الحليفة لها واستمرت بالمحافظة على علاقاتها نفسها مع قطر من دون أي انتقاد لسياستها برغم أن خصوم قطر أدانوها بدعم الإرهاب بما يعد إدانة للولايات المتحدة التي تزعم أنها تحارب الإرهاب في المنطقة والعالم، وهذا يدل تماماً على أن ما يهم السياسة الأميركية هو مصالحها حتى لو كانت على حساب مصالح أصدقائها أو حلفائها، ودفعت قطر ثمن الحصار الذي فرضه عليها حلفاء حليفها الأميركي طوال أربع سنوات وما زالت آثاره تعكر صفو العلاقات بين هؤلاء الفرقاء.
يرى بروفيسور علوم التاريخ في جامعة شيكاغو دانيال لاريسون في تحليل نشره في المجلة الإليكترونية «أنتي وور» الأميركية في العاشر من تشرين الثاني الجاري أن «الوقت حان لكي تدرك الولايات المتحدة أن العالم يصبح أفضل بكثير إذا توقفت عن التدخل في شؤون دوله، الصديقة أو المناهضة لها، لأنها تسلب استقلال الدول باسم الحرية والديمقراطية التي تتغنى بها حين تعد نفسها الدولة التي لا يمكن الاستغناء عن دورها في هذا العالم»، وهذا يعني تماماً أن الولايات المتحدة لا يهمها استقلال الدول بل تبعيتها لها لتصبح مسيّرة حسب الإستراتيجية التي لا تخدم إلا المصالح الأميركية.
في واقع الأمر تستفرد الولايات المتحدة من بين كل دول العالم في فرض العقوبات وحظر إقامة العلاقات مع دول تستهدفها بأشكال التدخل في شؤونها وهي ما زالت تتبنى شعار «من لا يقف معي هو عدوي» وهو أسوأ أشكال الدكتاتورية الإمبريالية التي لا نظير لها عند كل دول العالم.
ومع ذلك تعرضت سياسة التدخل الأميركي في شؤون الدول، لهزائم خلال العقود الثلاثة الماضية من دول كثيرة صغيرة مثل كوبا وكوريا الديمقراطية وسورية وإيران وفنزويلا والجزائر واليمن، مثلما تعرض الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق للهزيمة أيضاً، ولذلك يؤكد لاريسون أن المسؤول عن كل أشكال الفشل الأميركي والهزائم التي تتعرض لها الولايات المتحدة هو الاستمرار في سياسة الهيمنة ومحاولة فرض الإرادة الأميركية على الدول المستضعفة، بل توليد النزاعات الإقليمية أيضاً.
يشير سجل علاقات الولايات المتحدة بالدول الصديقة أو الحليفة لها في المنطقة إلى عدم تحقيق أي دولة لمصالحها في الحرب التي شنتها على دولة أخرى بدعم أميركي، بل إن واشنطن تجد نفسها رابحة حتى حين تتعرض الدولة الحليفة لها للهزيمة لأنها تكون قد باعتها الأسلحة وتكون أيضاً قد ابتزت اقتصادها وأموالها أثناء الحرب التي حرضتها على شنها، على غرار ما يجري الآن في الحرب السعودية على اليمن، فواشنطن لم تلحق بها جراء هذه الحرب خسارة اقتصادية أو بشرية أو مالية بل كان الخاسر الأكبر فيها هو حليفها السعودي والضحية هو الشعب اليمني الشقيق.
في النهاية لن تستطيع واشنطن فرض سياساتها على جميع الدول العربية واجبار هذه الدول على مقاطعة سورية بعد انتصار جيشها وشعبها على حرب المجموعات الإرهابية، وهي ستظل تشق طريقها نحو الاستقرار في علاقاتها مع الدول الشقيقة لأن واشنطن لا يمكن أن تنجح في إيقاف التعاون الطبيعي بين شعوب هذه المنطقة طالما أنه تعاون تتوافر فيه مصالح هذه الشعوب ودولها وهذا ما يثبته تاريخ العالم العربي رغم كل ما شهده من اختلافات ونزاعات لم تكن من صنعه بل من صنع القوى الاستعمارية الخارجية.